في كل يوم جمعة، حين يتجه الناس إلى بيوت الله خاشعين، ينصتون إلى خطبة الإمام، يحملون في قلوبهم شوقاً لسماع الموعظة، وتطلعاً للهداية، وثقةً بأن هذا المنبر المبارك هو لسان الحق، وصوت الدين، ونبراس الأخلاق. إن منبر الجمعة لم يكن يوماً وسيلة للجدل أو ساحة للصراعات الفكرية أو الحزبية، بل هو مقامٌ شرعيٌّ رفيعٌ لا يعتليه إلا من يحمل في قلبه نور الإخلاص، وفي عقله فقه الشريعة، وفي لسانه صدق الكلمة.
خطبة الجمعة ليست حديثاً عابراً، بل هي عبادة قائمة، وشعيرة من شعائر الإسلام، تُلقى قبل الصلاة، وتشترط لصحتها، وقد جعلها الله تعالى لحظة أسبوعية لتذكير الناس بربهم، وتقوية إيمانهم، وإصلاح أحوالهم، فأنزل فيها آيات بيّنات، فقال عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع”. فكان هذا الذكر المقصود هو الخطبة والصلاة معاً، وما احتفى بها الشرع هذا الاحتفاء إلا لأنها تحمل رسالة عظيمة، يجب أن تُؤدى بنزاهة، وتجرد، ومسؤولية.
غير أن بعض الجهات، وللأسف، تحاول استغلال هذا المقام الشريف لنشر أفكار حزبية ضيقة، أو بث سموم فكرية، أو الترويج لخطابات تقسيمية مشبوهة، أو حتى التحريض المباشر وغير المباشر ضد الدولة ومؤسساتها. وهذا السلوك لا يُعد انحرافاً عن روح الخطبة فحسب، بل هو انتهاك صارخ لقدسيتها، وخيانة للأمانة الدعوية، وتهديد للسلم المجتمعي الذي يسعى هذا المنبر أصلاً إلى ترسيخه.
الدين لا يُختزل في حزب، ولا يُسخّر لخدمة جهة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يُستعمل كغطاء للتجييش، أو التحريض، أو إضعاف الثقة بالدولة ومؤسساتها. فالمسجد لله، والخطبة أداة إصلاح لا أداة تأليب، وموعظة لا منصة صراع، ومن يعتلي المنبر يجب أن يكون قدوة في الورع، والاتزان، والانتماء للأمة لا للفصيل. فالإمام ليس ناطقاً باسم جماعة، بل هو ناطق باسم الشريعة، وواعظٌ باسم الإسلام، وراشدٌ يقود الناس إلى الصلاح لا إلى الضياع.
إن وزارة الأوقاف مشكورة على ما تبذله من جهدٍ في تنظيم الخطاب الديني، ومراقبة المنابر، وتأهيل الأئمة، لكنها اليوم أمام مسؤولية مضاعفة في ظل ما نراه من محاولات اختراق لهذا المنبر من قبل بعض المتسللين إلى الدين، أو من يسعون لتحويل المساجد إلى منصات حزبية، وهو أمر مرفوض شرعاً، ومردود وطنياً، ومرفوض جماهيرياً من عامة المسلمين الذين يريدون من خطبة الجمعة أن تعيدهم إلى الله، لا أن تزرع فيهم الغضب والريبة والتشكيك.
منبر الجمعة أمانة، ومن يخونه يخون أعظم ما ائتُمن عليه، وإن حماية هذا المنبر من التسييس والتغول الحزبي ليس مسؤولية الجهات الرسمية وحدها، بل هي مسؤولية كل غيورٍ على دينه ووطنه، وكل مؤمنٍ بأن المسجد هو موئل السكينة، ومهد الطمأنينة، لا منبر التجاذب والتمزق والانقسام.
ليبقَ منبر الجمعة صافياً، نقياً، حراً من الأهواء، منيراً للهداية، جامعاً لا مفرقاً، هادياً لا محرضاً، فإنما به نُحيي القلوب، ونُثبت الإيمان، ونرسم طريق النجاة للأمة في زمن كثرت فيه الفتن، وتعددت فيه المنابر، وقلَّ فيه الصدق.