2024-11-25 - الإثنين
00:00:00

آراء و مقالات

معان بين ثقافة المدينة ...ومدينة الثقافة

{clean_title}
صوت عمان :  


أ.د. محمود الجبارات

معان حصن الصحراء الأردنية وبوابتها وعروسها وواحتها الغناء، مدينة ذات ينابيع عذبة، وحدائق منزلية منسقة على نمط البيت والحدائق الشامية العريقة، بساتينها تقاوم شظف العيش الصحراوي، وشُح الموارد المائية، والشمس اللاهبة في أغلب أشهر السنة، وهي اليوم مدينة الثقافة الأردنية وعنوان أصالتها، ومُتكأُ ووسادة سهرة الأردنيين خلال حديثهم عن الإنجازات والبطولات وحوادث الحدثان على المدى.

شهدت المدينة إسلام عاملها فروة بن عمرو الجُذامي، عامل الروم على العرب في البلقاء، الذي اتخذ منها منزلاً، وتهادى وتراسل مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأسلم دون أن يرى الرسول الكريم، فكان أن صلبه الروم، لإعتناقه الإسلام، على ماء عفرى ومن هناك وجّه رسالة ثقافية جديدة، قبيل صلبه، قائلاً:

بلِّغ سُراةَ المسلمين بأنني  سَلْمٌ لربي أَعظُمي ومقامي

فكان فروة أول شهيد للإسلام في بلاد الشام قبل أن تصلها جيوش الفتح الإسلامي. وأصبحت معان بوابة فتح بلاد الشام ومصر. 

وفي فترة لاحقة أصبحت مقراً للأمويين، ثم حضنت جارتها الحميمة الدعوة العباسية، واستأنفت نشاطها بعد تراجع مكانتها التجارية والاقتصادية خلال الفترة الأيوبية والمملوكية، ثم أصبحت حاضرة مميزة في الفترة العثمانية، وكانت "أول وآخر طريق الحج الشامي إلى الحجاز"، ثم وصلها الخط الحديدي الحجازي في سنته السابعة 1907م، وامتد منها إلى المدورة، وغرباً إلى الشوبك لتزويد آلته البخارية بالوقود.

وبين إستضافتها لقوافل الحجاج من الشام وأواسط آسيا، ومن إفريقيا عبر مصر وإلى غزة وفلسطين أصبحت معان درّة صحراوية، وواحة أمان. وارتبطت المدينة بوشائج يغذي نَسْغُها بالمودة والألفة والأصالة مع جاراتها وروافدها، من مناطق جبلية وسهلية خصيبة في الشوبك ذات الإنتاج المميز من ثمار الأشجار المثمرة والمحاصيل الحقلية، وروافد من وادٍ يسقى بالمحبة في وادي موسى حيث الكروم والخضراوات تدلف جميعها إلى سوق مدينة معان لتبدأ مفاوضات العرض والطلب والاحتياجات المتبادلة المُلحة. ويفيض السوق بما فيه فتتوزع البضائع والحاجيات ويفترق الأخلة والأقران والتجار عن المدينة إلى روافدها أو إلى مدن أردنية أخرى.

كانت معان ولا تزال حاضرة في وجدان الأردنيين بإعتبارها عاصمة الأردن السياسية الأولى، وشاهدة على ولادتها عندما إستقبلت الأمير الثائر عبد الله بن الحسين سليل مفجر النهضة العربية الكبرى، واستقبلت معه وحضنت من حوله أحرار العرب من مصر والحجاز والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين لتبدأ النهضة العربية مرحلة جديدة برسالة تُوَّجه إلى العرب في كل مكان، بدأت بصرخة من معان ارتفعت على المحلية والإقليمية، وأطلقها الأمير بإسم والده الشريف الحسين بن علي كان من أدواتها جريدة جديدة في معان مثلّت هذه المرحلة الجديدة وهذا الفكر المستنير هي "الحق يعلو" رفعت راية الحرية والمطالبة بالحق في الحياة الحرة الكريمة لكل العرب، على ضوء أمانيهم في النهضة والوحدة والاستقلال.

لم يكن الأمير ثم الملك المؤسس رجلاً عادياً في زمن عادي، بل كان رجلاً فارساً وشاعراً ومثقفاً وأديباً، ثائراً، عربياً حُّراً، ومسلماً مستنيراً، فكانت بداية عهد معان به وعهده بها قد إصطبغ بصبغة ثقافية جديدة.

وأصبحت معان مقصداً علمياً وثقافياً لأبناء محافظة معان التي كانت في أوائل العهد الهاشمي الميمون تتكوّن من ثمانية وعشرين قرية وعشيرة، وزارها قاصداً العلم في مدارسها الإعدادية والثانوية أبناء العقبة والقويرة ورأس النقب والجفر وبسطة وإيل والشوبك ووادي موسى والحسينية، ليبدأ حراك علمي وثقافي تقوده مدينة لها أسواقها الدائمة والموسمية، وقد أحبها البعض فأقام فيها، وتزوّد آخرون بالعلم منها ليستأنفوا حياة علمية وعملية جديدة، وبقيت معان ذاكرتهم التي لا تنمحي.
مدينة بمحلتين جناحاها: "شامية" و"حجازية"، ينعم أهلها بمضافات عشائرية على شكل "دواوين" لسهرهم ومناسباتهم الاجتماعية المختلفة، وهي مجالس الأدب والشعر والقصص وتبادل التجارب والخبرات، يجتمع فيها الكبار والصغار، وأبناء العشيرة وضيوفهم من العشائر الأخرى أو الذين تحط بهم الرحال في معان.

وفي الثلاثينات من القرن المنصرم أصبحت معان مقرّاً للمحاكم العشائرية وصادق الأمير المؤسس على اختيار قضاة العشائر فيها، وممثلي العشائر في جناحيها. وتعززت الإنجازات الإدارية والمؤسسية فيها خلال عهد الإمارة ثم الاستقلال. 

غير أن معان خاضت مخاضاً عسيراً في أواخر الثمانينيات، وانطلقت منها هبة شعبية قادت إلى تحوّل ديمقراطي واسع في الأردن قاده الملك الباني الحسين بن طلال، كان من أبرز نتائجه على الوطن الأردني إستئناف الحياة الديمقراطية التي ننعمُ بها في الأردن حالياً، وإصدار الميثاق الوطني الأردني الذي فسّر وفعّل نصوص الدستور الأردني في مختلف المجالات السياسة والاقتصادية والفكرية والثقافية.

واستمرت معان في الازدهار والتألق، وأصبحت مركزاً مرموقاً للفعل الثقافي، والتبادل التجاري فضلاً عن النشاط الحرفي والصناعي، ثم أُسست في معان كلية معان، وجامعة الحسين بن طلال، وإتسعت المدينة عمراناً ومدارس ومنارات ومساجد ومنابر ثقافية، يرفدها ويعزّز مسيرتها هذا الفضاء المعرفي الأردني المنفتح والرشيد.