2025-12-05 - الجمعة
00:00:00

آراء و مقالات

الذكاء الاصطناعي والمراهقون… بين فزّاعة «الاعتماد المفرط» وفرصة الشراكة الواعية

{clean_title}
الكاتبة نسرين الطويل
صوت عمان :  


في زمنٍ يتقدّم فيه الذكاء الاصطناعي بخطى متسارعة، لا يكاد يخلو بيت أو مدرسة أو جامعة من حديثٍ عنه: فريقٌ يراه تهديدًا مباشرًا لمهارات التفكير والتعلّم، وآخر يتعامل معه بوصفه أداةً لا غنى عنها في المستقبل القريب. وبين هذين الطرفين يقف جيل المراهقين في قلب العاصفة؛ جيلٌ يُطالَب بأن يكون جاهزًا لعالمٍ تعمل فيه الخوارزميات في الخلفية طوال الوقت، بينما يُنظَر إليه أحيانًا كعدوٍّ محتمل لهذه الأدوات أو كضحيةٍ سهلة لها.

ما يثير الانتباه أنّ كثيرًا من هذا الخوف لا ينبع من جهلٍ مطلق بالتقنية، بل من هاجسٍ محدّد: الخوف من «الاعتماد المفرط». كأنّنا نقول لأبنائنا: نخشى أن تسرق منك الآلة قدرتك على التفكير، فنقرّر – بدافع الحماية – أن نمنعك منها تمامًا. غير أنّ السؤال الجوهري هنا ليس: «هل في الذكاء الاصطناعي خطر؟» بل: «كيف نتعامل مع هذا الخطر دون أن نُقصي الأداة نفسها من حياتنا التعليمية؟».

واقع لا يمكن إنكاره

المعطيات المتوفرة اليوم تجعل من الصعب جدًّا الدفاع عن خيار «المنع الكامل». استبيانات طلابية حديثة في جامعات غربية كبرى تشير إلى أنّ الغالبية الساحقة من طلبة البكالوريوس جرّبوا أدوات الذكاء الاصطناعي في إنجاز بعض مهامهم الجامعية، وأن نسبة مَن لا يزال يرفض استخدامها أصبحت أقلية صغيرة. في الوقت نفسه، تعلن مؤسسات دولية عن أنّ مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعي صارت من الكفاءات المطلوبة في سوق العمل، جنبًا إلى جنب مع الخبرة التقنية واللغوية.

نحن إذن أمام واقعٍ بسيط: الذكاء الاصطناعي لم يعد «خيارًا» يمكن تركه أو أخذه؛ بل أصبح جزءًا من بنية الحياة المعاصرة. هو حاضرٌ في أنظمة التوظيف، وفي التشخيص الطبي، وفي إدارة المدن، وفي منصّات التواصل، وفي التطبيقات التي نحملها في جيوبنا. إنكار هذا الواقع – تربويًا – لا يحمي أبناءنا؛ بل يعرّضهم لخطرٍ آخر: أن يدخلوا عالم العمل والدراسة العليا وهم متأخّرون خطوةً كاملة عن أقرانهم.

مفارقة الكبار والصغار

هنا تظهر مفارقة لافتة: كثير من الكبار – آباءً ومعلّمين ومسؤولين – يستخدمون الذكاء الاصطناعي في حياتهم اليومية، ولو بصيغٍ بسيطة: ترجمة نص، تلخيص مقال، اقتراح صياغة رسالة، اختيار مسارٍ على تطبيق الملاحة… ثمّ ينظرون إلى استخدام المراهق للأداة نفسها نظرةَ ريبةٍ واتهام. في بعض المدارس حُظِرت تطبيقات بعينها، وفي جامعاتٍ عُدّت الاستعانة بها نوعًا من الغشّ، بينما لا يجد الطلبة حرجًا في سماع أساتذتهم يتحدّثون عن استخدامها في إعداد المحاضرات أو مراجعة الأبحاث.

الرسالة غير المعلنة التي تصل إلى المراهق في هذه الحالة خطيرة:

«نحن نسمح لأنفسنا باستخدام هذه الأدوات، لكننا لا نثق بك بما يكفي لأن نسمح لك بالأمر ذاته».

وفي بعض البيوت المحافظة رقميًا، تُمنَع الشاشات تمامًا عن الأبناء أو تُقيَّد بشدّة، في حين يعتمد الوالدان على التطبيقات الذكية في كل تفصيلٍ من تفاصيل الحياة. هكذا تتكرّس في ذهن الشاب معادلة ظالمة: الذكاء الاصطناعي حلال للكبار، حرام على الصغار.

منطق الخوف… وحدوده

لا يمكن إنكار أنّ لهذا الخوف جانبًا مشروعًا؛ فهناك بالفعل من يسلّم واجبه المدرسي مكتوبًا بالكامل بواسطة أداةٍ ذكية، أو يستبدل كدّ الذهن في حلّ المسائل بضغطة زرّ. لكنّ تعميم هذا النموذج على كل استخدامٍ للذكاء الاصطناعي يختزل المشكلة ويشوّه الصورة.

المراهق الذي يسأل الأداة: «اشرحْ لي هذا القانون بلغةٍ أبسط»، أو: «أعطني مثالًا إضافيًا على هذه القاعدة النحوية»، لا يغشّ، بل يتعلّم. الخلل ليس في أن يَستعين الطالب بأداةٍ لمساعدته على الفهم، بل في أن نسمح للأداة بأن تقوم مقامه بالكامل، أو أن نتركها تعمل في الظلّ بلا ضوابط ولا حوار.

هنا يظهر الفرق بين منطقين:

منطقٍ يرى في الذكاء الاصطناعي خطرًا فيقرّر أن يلغيه من المشهد،

ومنطقٍ يرى الخطر نفسه، لكنّه يختار أن يمسك بيد الجيل الجديد ليعلّمه كيف يتعامل معه.

نحو خريطة طريق متوازنة

ما الذي نحتاجه إذن في مدارسنا وبيوتنا؟

أولًا، نحتاج إلى سياسات واضحة بدل الرسائل المربِكة. على المؤسّسات التعليمية أن تقول للطالب بوضوح: متى يُسمَح لك باستخدام الذكاء الاصطناعي؟ وفي ماذا؟ وكيف تُعلِن عن ذلك؟ ومتى يتحوّل هذا الاستخدام إلى انتحالٍ وغشّ؟ الوضوح هنا يحوّل الطالب من مُتَّهَمٍ سلفًا إلى شريكٍ في تحمّل المسؤولية.

ثانيًا، لا بدّ من إدخال ثقافة الذكاء الاصطناعي إلى المناهج: ما هو؟ كيف يعمل؟ أين يخطئ؟ وكيف يمكن أن يتحيّز ضدّ فئاتٍ بعينها؟ هذا ليس ترفًا معرفيًا، بل جزءٌ من التربية على المواطنة الرقمية في عالمٍ ستَصِل فيه قراراتٌ مصيرية – من قبول الوظائف إلى منح القروض – إلى أشخاصٍ لا يرون الوجه البشري لمن يُصدِر القرار، بل يرون واجهةً برمجية فقط.

ثالثًا، يحتاج المعلّمون أنفسهم إلى أن يتحرّروا من خوفهم؛ فلا يمكن لمعلّمٍ يخشى هذه الأدوات أو يجهلها أن يُرشد طلابه إلى استخدامها السليم. حين يختبر المربّي بنفسه كيف يمكن للأداة أن تقترح عليه أسئلةً للامتحان، أو أفكارًا لأنشطةٍ صفّية، أو طرقًا لتفريد التعليم، سينتقل تلقائيًا من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة.

رابعًا، على الأسر – خصوصًا في سياقات التعليم المنزلي – أن تجرب منهجًا بسيطًا ومتوازنًا:

حلّ أوّلًا… ثم استعِن لاحقًا.

أي أن يُطلَب من الطفل أن يحلّ مسائل الرياضيات، مثلًا، بالقلم والورقة، ثم يُفتَح له باب الاستعانة بأداةٍ ذكية ليراجع الحل، أو ليكتشف طريقةً بديلة، أو ليفهم الخطوة التي استعصت عليه. بهذا تُحفَظ قيمة الجهد الشخصي، ويُستخدَم الذكاء الاصطناعي كمعينٍ على الفهم لا بديلٍ عنه.

فرصة استثنائية لمن يحسن استغلالها

ما يغيب عن كثير من نقاشات الخوف هو أنّ الذكاء الاصطناعي يحمل في طياته فرصًا للأطفال والمراهقين الذين لم يكن النظام التعليمي التقليدي منصفًا معهم. الطالب الخجول الذي يخشى أن يرفع يده في الصف يمكن أن يجد في الأداة طرفًا يتدرّب معه على صياغة الفكرة قبل أن يقولها بصوته. والطالب ذو صعوبات التعلّم يمكن أن يستفيد من قدرة الأداة على تبسيط النصوص، أو تحويلها إلى صور، أو تقسيمها إلى خطواتٍ صغيرة.

الأمر ذاته ينسحب على فجوات اللغة والمعرفة؛ أدوات الترجمة الذكية اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى نقل المعنى بسلاسة، ما يفتح أمام المراهق العربـي أبوابًا واسعة على مصادرٍ لم يكن الوصول إليها ممكنًا من قبل، بشرط أن يُرشَد إلى التعامل معها بروح النقد لا بروح التسليم الأعمى.

في المقابل، فإنّ اعتماد المعلّم على الذكاء الاصطناعي في بعض الأعمال الروتينية يمكن أن يحرّر له وقتًا ليقوم بما لا تُحسنه الآلة: الإصغاء إلى الطالب القَلِق، أو دعم الطالب المحبط، أو بناء جسر الثقة مع المراهق الذي يعيش عواصفه الداخلية في صمت.

خاتمة: طريق ثالث بين الشيطنة والاستسلام

لسنا مضطرّين للاختيار بين طريقين كلاهما خاسر:

طريقِ الشيطنة التي ترى في الذكاء الاصطناعي شرًّا مطلقًا يجب استئصاله من الفصول والبيوت،

وطريقِ الاستسلام الذي يترك الأبناء للشاشات دون ضابطٍ أو توجيه، بحجّة أنّ «هذا هو المستقبل ولا طائل من المقاومة».

هناك طريق ثالث أكثر صعوبة، لكنه أكثر نضجًا: طريق الشراكة الواعية. أن نعترف أنّ هذه الأدوات صارت جزءًا من عالم أبنائنا شئنا أم أبينا، وأن نختار أن نكون نحن الجيل الذي يمسك بأيديهم ليتعلموا كيف يستخدمونها دون أن يفقدوا أنفسهم.

المستقبل لن يَصنعه مَن يقف على هامش التقنية يلعنها، ولا مَن يذوب فيها حتى يتلاشى؛ بل سيصنعه أولئك الذين يملكون الشجاعة ليقولوا للذكاء الاصطناعي – باسم الإنسان:

«أنتَ أداةٌ في أيدينا… لا قفصًا نحبس أنفسنا فيه.»

المراجع
Freeman, J. (2025). Student Generative AI Survey 2025. Higher Education Policy Institute (HEPI) & Kortext. HEPI+1
العنوان بالعربية: «استبيان الذكاء الاصطناعي التوليدي لطلاب الجامعات 2025».
Varanasi, L. (2023). New York City's public schools reverse their ban on ChatGPT — admitting it had been "knee-jerk fear". Business Insider, May 19, 2023. Business Insider+1
العنوان بالعربية: «مدارس نيويورك الحكومية تلغي حظر شات جي بي تي وتعترف بأنه كان ناتجًا عن «خوفٍ متسرّع»».
Banks, D. (2023). ChatGPT caught NYC schools off guard. Now, we're embracing its potential. Chalkbeat New York, May 18, 2023. Chalkbeat+1
العنوان بالعربية: «شات جي بي تي باغت مدارس نيويورك… والآن نحتضن إمكاناته».
Bond, C. (2025). What Happened the Year I Banned AI. Edutopia, July 29, 2025. Edutopia+1
العنوان بالعربية: «ماذا حدث في العام الذي حظرتُ فيه الذكاء الاصطناعي؟».
Toppo, G. (2024). Homeschoolers Embrace AI, Even As Many Educators Keep It at Arms' Length. The 74, June 25, 2024. The 74 Million+1
العنوان بالعربية: «الأسر التي تعتمد التعليم المنزلي تحتضن الذكاء الاصطناعي فيما يبقيه كثير من المربّين على مسافةٍ حذرة».
Common Sense Media. (2024). Parents' Ultimate Guide to Generative AI. Common Sense Media, September 17, 2024. Common Sense Media+1
العنوان بالعربية: «الدليل الشامل للآباء إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي».
Common Sense Media & Ipsos. (2024). The Dawn of the AI Era: Teens, Parents, and the Adoption of Generative AI at Home and School. Common Sense Media, Research Report. Common Sense Media+1
العنوان بالعربية: «فجر عصر الذكاء الاصطناعي: المراهقون والآباء وتبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي في البيت والمدرسة».
موظف المبيعات الذي لا يغيب عن أي مؤتمر… قصة تُثير الأسئلة قبل الإجابات داخل قطاع التأمين مديرية الأمن العام تطلق خدمة "التدقيق الأمني للمركبات" عبر الرقم "117111" شركة زين تطلق دليل إمكانية الوصول الشامل لتهيئة مبانيها ومرافقها للأشخاص ذوي الإعاقة حجازي: مكافحة الفساد استردت نحو 100 مليون دينار غارة سعودية تستهدف قوات حكومية في اليمن كأس العرب: الفدائي يفرض التعادل على تونس الاردن .. موظف في التربية يختلس آلاف الدنانير من أموال مخصّصة لطلبة سوريين في التسعيرة المسائية: ارتفاع طفيف على أسعار الذهب في الاردن كأس العرب: سورية تفرض التعادل على قطر الفيصلي يحافظ على صدارة الدرع بثلاثية في شباك الرمثا الحكومة: تركيب كاميرات لمراقبة المتسولين طقس متقلب في الأردن: أجواء لطيفة اليوم وتحذيرات من أمطار غزيرة وسيول السبت وفيات يوم الجمعة 5-12-2025 في الأردن النشامى ينتظرون قرعة المونديال… من ستكون أولى خصوم الأردن؟ أطعمة قد تدمّر مفاصلك بصمت… خبراء يحددون أسباب النقرس "داء الملوك" نحو 160 ألف متقاعد تحت خط الـ300 دينار… دعوة لإصلاح عاجل يعيد الاعتبار لرواتب الضمان الكيتو تحت المجهر: خسارة وزن مؤقتة مقابل مخاطر صحية دائمة بعد أول لقمة حلوى… ماذا يحدث لأسنانك؟ خطأ يومي يُدمّر الأسنان بصمت! كيف يؤدي الضغط النفسي والتوتر إلى تساقط الشعر؟