في فجر الحادي والعشرين من آذار عام 1968، كانت الأرض الأردنية على موعد مع واحدة من أعظم ملاحم الصمود والبطولة، حيث ارتفع صوت العزة فوق هدير المدافع، وكتب الجنود الأردنيون بدمائهم صفحةً خالدة في تاريخ الأمة. لم تكن معركة الكرامة مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختبارًا لكرامة وطن، وإعادة لصياغة مفهوم النصر في زمن خيّم عليه الإحباط بعد نكسة حزيران.
تقدّم العدو الإسرائيلي بقواته، مدججًا بأحدث ما وصلت إليه ترسانته العسكرية، واثقًا بأن اجتياح الأغوار الأردنية لن يكون سوى نزهة خاطفة تحقق أهدافه السياسية والعسكرية. كان يسعى لضرب المقاومة الفلسطينية في بلدة الكرامة، وفي الوقت ذاته، فرض واقع جديد على الأردن والمنطقة. لكن ما لم يدركه هو أن الجيش الأردني، رغم قلة عدده وعتاده مقارنةً بجيشه، كان يحمل سلاحًا لا يُقهر: الإيمان بالحق، والعزيمة الصلبة، والاستعداد للتضحية دون تردد.
انطلقت المعركة بقصف مكثف، لكن الأردنيين لم يتراجعوا، بل صمدوا كالصخور في وجه العاصفة، يحركهم يقينٌ بأنهم يدافعون عن الأرض والعرض. ومع كل قذيفة معادية، كان الرد أعنف، وكان الثبات أشد. دبابات العدو التي زحفت بثقلها نحو الكرامة، وجدت نفسها في مواجهة جنود أوقفوا تقدمها بصدورهم، فدارت معارك شرسة من مسافات الصفر، تحولت فيها كل خندق إلى قلعة، وكل زاوية إلى ميدان شرف.
وسرعان ما تبدّلت الموازين، وانهارت أوهام العدو أمام عنفوان الأردنيين، فكانت النهاية عكس ما خُطط لها. لم يكن الانسحاب الإسرائيلي مجرد تراجع عسكري، بل كان هزيمة مذلّة اعترف بها العدو نفسه. للمرة الأولى، وجدت إسرائيل نفسها أمام جيش لم ينكسر، وإرادة لم تلن. أما الأردن، فقد خرج مرفوع الرأس، لم يرَ في النصر مجرد انتصار في معركة، بل استعادةً للكرامة العربية التي كادت أن تُطمس.
لقد أثبت الأردنيون في ذلك اليوم أن الكرامة ليست شعارًا يُرفع، بل عهدٌ يُحفظ، ودمٌ يُبذل، وإرثٌ يُدافع عنه مهما غلت التضحيات. ومع كل عام، تتجدد ذكرى هذه الملحمة لتذكّر العالم أجمع بأن الأرض لا يحميها إلا أبناؤها، وأن الإرادة الحرة قادرة على هزيمة أعتى الجيوش. كانت الكرامة، وستظل، رمزًا لانتصار الروح على القوة، وانتصار الحق على الغطرسة، وانتصار الأمة على اليأس.