أ. د. ليث كمال نصراوين*
أكد جلالة الملك في لقائه الأخير مع رئيس وأعضاء مجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان، أن "الأردن ملتزم بالتعددية السياسية والإعلامية، وهو ليس دولة تعسفية ولن يكون أبدا، وتاريخنا يشهد على ذلك". فهذا الوصف الملكي للدولة الأردنية يأتي انسجاما مع المبادئ الدستورية العليا التي يقوم عليها نظام الحكم منذ الاستقلال حتى يومنا هذا، والقائم على أساس وجود دستور تعاقدي بين الحاكم من جهة والشعب من خلال ممثليه المنتخبين من جهة أخرى.
كما يتوافق الإعلان الملكي عن الدولة الأردنية بأنها ليست دولة تعسفية، مع تعريف الفقه الدستوري للدولة التعسفية البوليسية بأركانها وعناصرها المختلفة، والتي لا يتوافر أي منها في الحالة الأردنية منذ نشأتها وعبر تاريخها الممتد إلى مئويتها الثانية.
فالقانون الدستوري يُقسم الدول من حيث خضوعها لأحكام القانون إلى دول قانونية يخضع فيها الحاكم والمحكوم إلى مبدأ سيادة القانون، ودول استبدادية تكون فيها جميع السلطات محصورة بيد الحاكم الفرد، الذي يتمتع بصلاحيات مطلقة تصل حد الاستبداد والتعسف.
فالدولة التعسفية أو البوليسية – كصورة من صور الدول الاستبدادية – تقوم على أساس وجود نظام حكم مطلق يعمل على اختطاف الدولة وتوظيفها لخدمة مصالحه الضيقة. فالميزة الأساسية للدولة التعسفية هي سيطرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مظاهر الحياة العامة، بهدف الحفاظ على امتيازات السلطة الحاكمة ومحاربة قوى التغيير التي تسعى إلى التحرر ومقاومة الواقع الاجتماعي السائد.
كما تمتاز الدولة التعسفيةالبوليسية بأنها لا تحترم الدستور أو القانون، وأن الوثيقة الدستورية وإن كانت نافذة وسارية المفعول إلا أنه ليست مطبقة على أرض الواقع، حيث ينظر إليها الحاكم باعتبارها وثيقة غير قابلة للتنفيذ.
وتحكم الدولة التعسفية سيطرتها المطلقة من خلال تحكمها بوسائل الإعلام في الدولة، والترويج لمغالطات ومشاريع وهمية لجذب المؤيدين للنظام، وذلك تحت شعارات كاذبة توجه نحو الأشخاص محدودي الثقافة والوعي السياسي، وإلى عامة أفراد الشعب المغلوب على أمرهم.
كما تعمد الدولة التعسفية إلى اتباع أسلوب القمع والتنكيل وترهيب أفراد الشعب، وتهديدهم في حياتهم وسلامتهم البدنية ومصالحهم المالية. وهذا الأمر لا يتوقف عند الاعتقال التعسفي خارج إطار القانون، بل يصل حد التصفيات الجسدية وعمليات الاختفاء القسري والتعذيب.
أما الأحزاب السياسية والانتخابات إن وجدت في الدولة التعسفية، فهي مجرد واجهة شكلية تفتقر إلى الإرادة الحرة في المشاركة بالشؤون العامة، ويتم تسييرها والتحكم فيها من قبل الأجهزة الأمنية والإدارات العليا في الدولة.
إن الدولة الأردنية منذ نشأتها لم تسع إلى التنكر لحقوق الأفراد وحرياتهم، بل سعى النظام الحاكم إلى إيجاد الضمانات القانونية التي تدعم حق الفرد في المشاركة السياسية وفي التمتع بالحد الأقصى من الحريات الدستورية. وقد ظهر هذا الأمر جليا منذ هبوب رياح الربيع العربي، حيث خضع الدستور الأردني لتعديلات شاملة في عام 2011 تكللت بإنشاء المحكمة الدستورية والهيئة المستقلة للانتخاب لتشرف على الانتخابات النيابية وتديرها، بهدف تحقيق أقصى درجات النزاهة والحيادية في ممارسة الديمقراطية التمثيلية.
وقد اتسع نطاق الضمانات القانونية للحقوق والحريات في التعديلات الدستورية لعامي 2014 و2016، حيث جرى توسيع صلاحيات الهيئة المستقلة للانتخاب لتشمل إجراء الانتخابات البلدية كاختصاص أصيل، بالإضافة إلى رسم العلاقة بين الملك ورئيس الوزراء المنتخب في الحكومة البرلمانية، وهي الفكرة التي يدفع النظام الحاكم إلى تحقيقها وإخراجها إلى حيز الوجود.
وقد تجلّت الطبيعة القانونية للدولة الأردنية في التعديلات الدستورية لعام 2022، حيث تم تكريس القواعد العليا التي يقوم عليها نظام الحكم وتحويلها إلى مبادئ دستورية مكتوبة تعطي الحق للأفراد بالتمسك بها للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم الدستورية. فقد جرى "دسترة" مبادئ المواطنة وسيادة القانون في المادة (6/7) من الدستور المضافة في عام 2022، والتي تلزم الدولة بكفالة هذه المبادئ لجميع الأردنيين، بالإضافة إلى تمكين المرأة والشباب للمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتنمية قدراتهم ودعم ابداعاتهم وابتكاراتهم.
وعلى صعيد التعددية السياسية والإعلامية التي وصف بها جلالة الملك الدولة الأردنية، فهي ليست مجرد شعارات ملكية، بل نصوص وقواعد تشريعية مطبقة ونافذة. فالمادتان (15) و(16) من الدستور تكرسان الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في تأسيس الأحزاب السياسية والانضمام إليها وفق أحكام القانون.
ويبقى الخلاف بين الأفراد والحكومات المتعاقبة حول التشريعات الناظمة للحقوق والحريات الدستورية ونطاق حمايتها في القوانين الوطنية خلافا يتعلق بآلية ممارسة هذه الحقوق، ولا يجب أن يصل بأي حال من الأحوال إلى تغيير الصفة الحقيقية للدولة الأردنية، بأنها دولة قانونية تقوم على الاعتراف بالتعددية السياسية والإعلامية.
فحالة الاشتباك الإيجابي في مشروعات القوانين التي يجري اقتراحها يؤكد على الصفة القانونية للدولة الأردنية، وبأنها تسمح بتعدد الآراء المعارضة والمناهضة للتوجهات الرسمية، وذلك ضمن إطار احترام القانون وتمكين السلطات الحاكمة من ممارسة مهام عملها وفق أحكام الدستور.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية