قد تعجز المجتمعات، أحيانا، عن مواجهة أزماتها، فتهرب إلى زوايا الخرافة أو منصات الفهلوة، حجم الإعجابات والمتابعات التي يحظى بها بعض المؤثرين، ناهيك عن الاموال التي يتلقونها، تعكس مثل هذه الحالة، واجب إدارات الدولة أن تتحرك لمواجهة هذا العجز أولا، وهذا الاستغراق بواقع التفاهة ثانيا، الدولة لا يجوز أن تقف متفرجة، وقبل ذلك لا يمكن أن تنسحب وراء المؤثرين المغشوشين، بالمحتوى والاداء، أو أن تروّج لأعمالهم الهابطة، فنيا وأخلاقيا على حد سواء.
أعرف، تماما، أن ذهن القارئ الكريم سينصرف إلى وقائع شاهدناها خلال الأشهر الماضية، لا أريد أن أسميها، يكفي أن أقول : التفاهة أصبحت ظاهرة تتمدد بسرعة، نحن -أقصد الجمهور – من يشجعها ويدعمها، ونحن، أيضا، من يرفضها ويسخر منها، وذلك جزء من حالة» الشيزوفرينيا « التي تعاني منها كثير من مجتمعاتنا.
أشير، هنا، إلى مسألتين، الأولى أن الدولة الأردنية تأسست منذ 100 عام على قيم وتقاليد راسخة، كرستها السياسة أولا، من خلال توافق النظام السياسي مع المجتمع (القبلي) المتدين، وقد احترم الجميع هذه القيم، وانعكست على الحياة العامة بكل تفاصيلها، إدارات الدولة ونخب المجتمع سخّرت الفنون على اختلافها، و الثقافة والإعلام بأنواعها المتعددة، ووسائل التوجيه الدينية والاجتماعية، لخدمة هذه التقاليد والقيم، آنذاك ازدهر الفن الأردني حين كان يتحدث باسم الناس، ويلتزم بقضاياهم، ويعكس همومهم، كما شكلت وسائل الإعلام ومنابر الثقافة روافع للدولة، ومنصات للأردنيين، وبالتالي أفرزنا أفضل ما لدينا في مواجهة متغيرات وأوضاع عصفت بنا طيلة تاريخنا الطويل.
اما المسألة الثانية، فهي أننا لم نفلح، حتى الآن، بكتابه التاريخ الأردني، ولم نحسن استخدام «القوة الناعمة «التي تشكل اليوم أهم ركائز القوة والنهضة للدولة الحديثة، حالة الفن والدراما، والإعلام والشعر والأدب، وكذلك المراكز البحثية والاستراتيجية، تؤكد أننا تأخرنا كثيرا في صناعة واقع يليق ببلدنا، وأهدرنا ما لدينا من طاقات وكفاءات، كان يمكن أن تؤثر ايجابيا بنا ولغيرنا، وتأخذنا الى الصدارة.
الأخطر من ذلك أننا استبدلنا كل هذه الركائز التي أهملناها وخسرناها، براوفع صناعية هشّة، عنوانها «التفاهة «، حيث ازدهرت أسواق إشغال الناس بالمحتويات المسطحة والرديئة، والممثلون الأنصاف، مثلما تكرست -أيضا -ثقافة السخرية واليأس، والاستغراق بالماضي وامجاده، هروبا من الواقع وأسئلته و قضاياه الكبرى، التي كان يجب أن نواجهها بإجابات مقنعة، وجميلة أيضا.
تزامن كل هذا مع غياب، أو تغييب، ل»القضية الأردنية» التي يجب أن تشكل مشتركا وطنيا لحركة الدولة والمجتمع، لم نستثمر -للأسف – برمزية الدم والشهيد الأردني بالشكل الصحيح، ولا بعصامية المعلم والعامل والجندي، ولا بصورة المرأة الأردنية النشمية، ولا بتطور حالة المجتمع وانتقاله من البداوة إلى التحضر، اغفلنا ذلك لمصلحة صناعة هويات فرعية أحيانا، او لمجاراة أسواق تتاجر بالصورة الردئية والمحتوى الفارغ، او جراء اقصاء الكفاءات الفنية والثقافية والإعلامية التي تمثل المجتمع، لحساب هواة جدد، لا يمتلكون الفكرة ولا المشروع، ولا الكفاءة ولا الإبداع.
الآن، حان وقت التدقيق والمراجعة، لابد من وقف حالة التفاهة والفهلوه، وخبث استخدام الصورة، والتعدي على رمزية وقدسية الأمكنة، بما تعكسه من تاريخ وتقاليد وقيم. الأردن اكبر وأجمل من كل هذا الذي نراه ويستفزنا، و الأردنيون يستحقون من يقدم لهم تاريخهم المجيد بصدق ورقي وأمانة، ومن يعكس صورتهم الحقيقية، لا المسلوقة في غرفة النطّ والشطارة والتجارة، سواء من خلال الثقافة أو الفن أو الإعلام وغيرها.
لماذا نحتاج لذلك؟ لأن هذه «التفاهة» لا تليق بنا، واخشى ما اخشاه ان تشكل واقعنا، وتصبح نظاما لحياتنا، أو مرآة تعكس مخيالا يريده الآخرون لنا، ولا يشبهنا أبدا.