كنا صغارا لأباء وأمهات لم يذهبوا لمدارس الحكومة ولكن تعلموا في مدرسة الحياة وكانت حرفة أهلنا الزراعة وتربية الحلال في جنوب عمان كان لديهم مخزون متوارث من القيم والأخلاق والكرم والنخوة والرجولة والمحبة والتكافل والعادات والتقاليد الأصيلة المتوارثة عن الآباء والأجداد تعجز كل مدارس الدنيا أن تقدمها لهم.
من خصالهم الحميدة التي يمارسونها يومية هي "الصحون الطائرة" التي تحلق في سماء القرية لتدخل كل بيت وتخرج منه عائدة إلى بيت اخر وهذه من صفات التكافل الإجتماعي والتعاون في أرقى صوره.
قصة هذه الصحون تبدأ في وقت الظهيرة حيث تشاهد الأطفال يحملون الطعام في صحون من بيوتهم لبيوت جيرانهم واقاربهم كل يوم لان كل مشروم مبروك يلتقي الاولاد في منتصف الطريق هذا يحمل" مجدره" وهذا يحمل "رشوف" وهذا يحمل "العدس" وهذا يحمل "مقلوبه" وهذا يحمل "منسف" وهذا يحمل "لزاقيات" وهذا يحمل "بسيسه" وهذا يحمل "خبز شراك" وهكذا يوميا بلا كلل ولا ملل العائلات الأردنية تطبخ لها ولجيرانها في أروع صور التكافل الإجتماعي.
لماذا نطبخ ونطعم الجيران ما المغزى وما الرسالة التي كانت في بال أهلنا الذين تربوا في مدرسة الحياة هل هو الترف ام شراكة في الحياة والماء والهواء والطعام وبالتالي شركاء في الوطن .
كان هذا السلوك الإيجابي يقدم حلول في مجتمع يحتاج أن يتعاون ففي حين ترسل أم محمد من طبختهم إلى أم صالح كانت تعرف لماذا ترسل الطعام يوميا إلى أكثر من بيت ويأتيها الطعام من اكثر من بيت.
كان هذا السلوك يعالج مشاكل يومية بحيث قد تكون أم محمد في هذا اليوم ليست في البيت فياتي طعام أطفالها ساخنا كل يوم من الجيران وقد تكون ام إبراهيم مريضة فياتيها واطفالها طعامها وقد تكون ام احمد فقيرة فياتيها واطفالها طعامها وقد تكون ام مطلق في المستشفى فياتي أطفالها طعامهم لذلك كان أطفال الحارة يلعبون ويعلمون ان طعامهم من كل البيوت سيأتي ظهرا عبر هذه الطرقات التي تلتقي فيها الصحون والقلوب لتصبح القرية عائلة واحدة متكافل متحابة لا يجوع فيها أحد ولا يتعالى أحد على أحد فكان الله يبارك في اعمارهم ويومهم وصحتهم ورزقهم لان فيه حق معلوم للسائل والمحروم وفيه حق للجار ومراق الطريق.
لم نتعلم منهم بل تعلمنا في مدارس لم تقدم لنا موروث أهلنا واجدادنا واليوم ليس هناك صحون طائرة في سماء القرية وأصبح الكل يغلق بابه فلا تشتم من البيوت الا رائحة الطعام الذي يذهب معظمه إلى الحاويات حتى الحيوانات لا تستفيد منه.
بين الماضي الذي كان كله تكافل بين الناس والجيران والحاضر الذي نعيشه بلا شعور او رحمة فالكل مشغول بنفسه ولا يلتفت حوله
لذلك البركة طارت من كل شيء واذا أردتم عودتها يجب أن نرى صحونكم الطائرة تعود من جديد لعلها تطهر قلوبكم المتحجرة الا من رحم ربي.