( بداية لا بد لمن يريد الحكم على هذا المقال إن ينتهي من قرأته حتى النهاية)
لابد أن نسمي الأمور بمسمياتها قبل الدخول إلى متن ومضمون المقال، و هو إن الأردن دولة وفلسطين دولة وهما توأمان عربيان إسلاميتان لكل منهما هويتها الخاصة ، لهما علاقة استثنائية تجمعهما عبر التاريخ، فهنالك التاريخ الواحد والمصير الواحد و العدو الواحد، مثلما جمعهما نهر الأردن اعلى ضفتيه شرقا وغربا.
يبدو أن رواة التاريخ توقفوا عن سرده وبيان العلاقة التي تجمع الأردن و فلسطين، وان الحدود الجغرافية بينهما حلقات وصل وليست فصل، مثلما أن شريان نهر الأردن تروي مياهه الطرفين بالإخوة والعشق، كما الأم التي ترضع ابنيها لا تفطم أحدهما على حساب الآخر.
منذ أزل التاريخ كانت الشعوب لها علاقات وامتدادات على كامل الجغرافيا، وكانت مملكة الأنباط أول مملكة لشعب على وجه الأرض، من حيث النظام والتجمعات السكانية، وكان الملك مشيع المؤابي من الذين خاضوا حروبا مع اليهود وانتصر عليهم، وامتدت التجمعات السكانية وسك العملة ، ووصلت حدود المملكة إلى سيناء، وعندما جاء صلاح الدين الأيوبي محررا للقدس، كانت جيوشه على أراضي الأردن حاليا، وكانت غالبية تلك الجيوش هم من سكان هذه المنطقة (الأردن حاليا) ومن قبائلها، وتعرف قرى الولجة المحيطة بالقدس بنسبهم لقبيلة بني حسن الذين استقروا هناك حتى يومنا هذا، وهو مثبت تاريخيا ، ومثلها كثير من القبائل.
في بداية القرن الثامن عشر، ازدادت التجمعات البشرية وأدت لإقامة عدد من الأسر ما بين شرق النهر وغربه، وهذا أيضا مثبت تاريخيا، وخلال مطاردة رجال إبراهيم باشا السفاح للثوار الفلسطينيين آنذاك، لجؤوا إلى الكرك وبعض مدن المملكة كالبلقاء وعجلون، واحتدت مطاردتهم في الكرك وتمت محاصرة قلعتها، ويذكر التاريخ قصة استشهاد أبناء الشيخ إبراهيم الضمور وعليا الضمور، اللذان رفضا تسليم الثوار الفلسطينيين لرجال السفاح، وتم إحراق ولديهما أمام ناظريهما، و كثير من القصص كقصة إسماعيل الشوفي المجالي وجلحد الحباشنة ، وكثير من أبناء الكرك الذين تم إعدامهم في القدس بأعوام 1835 وما بعدها، كل ذلك دفاعا عن فلسطين وأهلها، والتاريخ شاهدا.
بعد الاحتلال الإنجليزي وبدء الثورة العربية الكبرى، كانت القبائل الأردنية تقوم بتسليح أبنائها وارسالهم للقتال في فلسطين ، والبداية من قبيلة الحويطات وامتدت إلى قبائل الأردن ، وعقدت المؤتمرات والتحالفات نصرة لفلسطين ، حتى بعد تأسيس الدولة الأردنية ، ويشهد التاريخ لما قام به أبناء عباد والمجاهد مبارك أبو يامين الذي عرضت عليه آنذاك 15 ألف جنيه ذهب بدل خدمته للمجاهدين و المصابين وشراء الأسلحة للثوار، فكان رده على من عرضها عليه " احنا نغدي ونمشي" ورفضها وطلب شراء أسلحة ومستلزمات للثوار ، وهو ما قام بمثله قبائل العدوان والعجارمة والبلقاوية وقبائل الشمال ، وما معركة تل الثعالب والشهيد كايد العبيدات ورفاقه من كفرسوم إلا مثالا على ذلك ، وايضا اموال المرحوم فواز الزعبي ابن الرمثا التي كانت تمول الثوار ومستلزماتهم.
جاء بالتزامن مع هبة أبناء القبائل الأردنية وجود الجيش الأردني والحروب التي خاضوها على ثرى فلسطين الطاهر ، وكل بقعة من ثراها الطهور يروي قصصا وبطولات مكتوبة بدماء شهداء الجيش الاردني ، وما زالت آثارهم ورائحة مسكهم كالعليل في سماء فلسطين حتى اليوم.
بعد النكبة والنكسة، فتحت بيوت الأردنيين لأشقائهم ، وتقاسمنا رغيف الخبز والمصير، وتوحدنا ضد العدو، فكل بيت في قرآنا وبوادينا فيها شاهد عيان من العسكر على تلك المعارك، وقدمت رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما معركة الكرامة إلا دليل على وحدة الدم والمصير، ويسجل التاريخ لرجال ونساء عيرا ويرقا قصف طيران العدو لهم ، واستمروا بتقديم المساندة للمدفعية ونقل الذخائر ليس دفاعا عن الأردن وأراضيه فحسب بل حبا في فلسطين ايضا، وأغاني "الخنيارات" في كل مناسبة كانت عن جيشنا ورجالنا في فلسطين، واذكر بكاء بعض قريباتي وفاة الثائر الفلسطيني الملقب بهبوب الريح في مسلسل هبوب الريح الذي أدى دوره الفنان عادل عفانة، مثلما نعايش لليوم أبناء الشهداء في وادي السلط وعين حزير عام 1967، وتلك الفتاة التي جاءت مع أهلها من فلسطين، فاستشهدوا جميعا وبقيت على قيد الحياة ، ليأخذها أحد أبناء السلط ويربيها كأبنته ومازالت على قيد الحياة حتى اليوم.
أما كاتب هذه السطور فقد ولدت لرجل عسكري -رحمه الله- ، بدأ خدمته في جنين وبعض المدن الفلسطينية وقاتل على اسوار القدس ، ومازالت وصيته التي كتبها أنذاك حتى اليوم بين جدرانها ، وهو ابن لرجل كتب الله له أن يكون مقاتلا مع الشهيد عبد القادر الحسيني، وحالي هو حال كل أردني ، وأكرمني الله بزيارة فلسطين لثلاث مرات، تجولت في كل مدنها ونمت ليلتي في القدس وصليت الفجر في أقصانا، ودخلت بيوت الفلسطينيين في جنين ونابلس وطولكرم والخليل وبيت لحم ورام الله وقلقيلية وما كنت إلا ابنا لهم، فهم مني وأنا منهم حتى قيام الساعة.
ما دعاني لسرد جزء بسيط جدا من التاريخ ، قيام بعض الصفحات والأشخاص بالشتائم والألفاظ البذيئة، التي تعبث بقدسية العلاقة التي تجمع الأردن وفلسطين ولم تفرقهما يوما من الأيام، هذه العلاقة التي بناها الأطهار من الآباء والأجداد من الطرفين، ولم يلوثها أو يدنسها أحد، مهما حاول بعض المدسوسين قديما وحديثا تلويثها، وازدادت مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنفث سمومها مهددة العلاقة المقدسة من أجل اشياء ليس من الشرف مجرد ذكرها، ولم يحترموا الشهداء والمصابين والمحاربين ولا حتى علاقات النسب والمصاهرة.
تعلمت وتربيت في بيت اردني ، على أننا آخر قلاع وحصون الأمة دفاعا عن فلسطين وأهلها، مثلما كان جيشنا يرددها في المعارك "فلسطين أرضنا وعرضنا"، ومثلما قالها الحسين بن طلال -طيب الله ثراه- "الأرض أرضنا والقدس قدسنا"، ونعلم ماذا فعل وصفي التل مقاتلا ورئيسا للوزراء من أجل فلسطين، وكذلك عبد الله التل، حابس المجالي ، صالح شويعر، محمد ضيف الله الهباهبة ومشهور حديثة الجازي والآلاف من رجال الأمة الأردنية.
هذه هي العلاقة التي تجمعنا بفلسطين وأهلها، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لن نتركهم حتى تعود الروح لخالقها من آخر أردني على قيد الكرامة والشرف، أما من يحاول حرف البوصلة وخلق الاحتقان والاختلاف فنقول له "شاهت وجوهكم وخابت أفعالكم وفشرتم" ، فنحن دولة لديها من القيم والقانون ما تستطيع به لجم أي مسيء ، فنحن وطن نحمل راية أمة بأكملها، ودفعنا ومازلنا ندفع الثمن ، لن نساوم على فلسطين وأهلها رغم كل الظروف، هذه علاقة الأردنيين بالفلسطينيين، أما علاقة الفلسطينيين وما قدموه للأردن والأردنيين، فلدي حديث يشبه ما كتب أعلاه سأرويه لاحقا.
حفظ الله الأردن العظيم وأهله وقيادته، وعاشت فلسطين حرة عربية مستقلة وعاصمتها القدس كل القدس، والله من وراء القصد، فما أردت إلا الإصلاح ، فثنائية أردني فلسطيني لم تكن إلا ثنائية أخوة تجمع ولا تفرق.