بدأها باستقالة تاريخية هي الأطول ربما عبر التاريخ، فالعشرة آلاف كلمة التي شكّلت خطاب استقالته، تضمّنت محاور في منتهى الأهمية، وكانت حروفها تنبض بالوطنية والحرص على الصالح العام لا بل كان في تشديد بعضها إحساس واضح بالقهر مما آلت إليه بعض المسارات وما جنح منها عن الجادة..!
موسى الصبيحي، اتفقنا أم اختلفنا معه، شكّل حالة استثنائية فريدة بين الصفوف الأولى لموظفي القطاع العام، فهو لم يكن موظفاً بقدر ما كان قائداً، ولم يكن بيروقراطياً بقدر ما كان متحرّراً من قيود الوظيفة وإسارها وروتينها وبيروقراطية نهجها المعتاد، كما أنه لم يكن حبيس الصندوق بفكره ومعطياته ونظرته الضيقة بقدر ما كان منطلِقاً وصاحب رؤية استشرافية بعيدة المدى..!
هذا ما شكّل حالته الفريدة، فقد أراد أن يقول لنا جميعاً بأن الوطن ومصالح أبنائه أكبر من اجتهادات ضيقة، وأهم من شخصيات هزيلة، وأولى من التشبّث بأصحاب المآرب والرؤى المريضة، وأن المصالح الخاصة لا يمكن أن تعلو على المصالح العامّة في إطار مجتمع رصين، ودولة رصينة وحصينة بتشريعاتها ومؤسساتها..!
موسى الصبيحي لم يتقاعد ولن يتقاعد، حتى وإن استقال من عمله في المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، فلا يزال عطاؤه مستمراً وبوتيرة أعلى مما كان عليه خلال وجوده على رأس عمله، وهو بذلك يقدم لنا جميعاً نموذجاً حيّاً راقياً في الانتماء وحب الوطن والناس، فمنذ اليوم الأول لتركه وظيفته الرسمية بدأ يؤسّس لمدرسة توعوية تثقيفية تطوعية يقدم من خلالها أفكاراً ورؤىً وسياساتٍ ونصائحَ ومعلومات تأمينية توعوية رصينة تهم كل الناس والمؤسسات وأصحاب القرار، وهو ما زال يقدّم ذلك بشكل يومي دون كلل أو ملل، ويمحضها جل فكره واهتمامه، لا ينتظر على ذلك حمداً من أحدٍ من الناس ولا شكورا.. وإنما الأجر من الله وحده..!
وحتى عندما تحدّث عن جمعية متقاعدي الضمان، اتسم حديثه بالموضوعية المفعمة بالمحبة والحرص على مصالح المتقاعدين، فأرشد إلى نقاط في غاية الأهمية، وأوضح محاور حيوية ترسم خارطة طريق لعمل الجمعية، دون أن يكون في خلده أدنى نظرة لمطمع أو مصلحة تخصه، بل كانت كلماته ونصائحه تُشدّد على التخلص من أمراض الأنا وتتجرد من المصالح الخاصة إلى حيث يمكن أن يتحقق الصالح العام للجميع.. وحُقّ له أن يطرح نفسه رئيساً للجمعية بما يملكه من خبرة ومعرفة ودراية وقيادة وكاريزما وحضور وقبول لدى الغالبية العظمى من المتقاعدين لا بل ومن أبناء الوطن..
ثلاثمائة معلومة تأمينية توعوية في تشريعات الضمان وسياساته واستثماراته شكّلت تياراً معرفياً هائلاً في المجتمع أسهم فيها الصبيحي، متطوّعاً، في التعريف بمؤسسة الضمان وصندوق استثمار الضمان والحقوق والالتزامات التي تضمنها قانون الضمان وأنظمته، كما انتقد فيها بموضوعية فائقة وذكية بعض السياسات والقرارات التي رأى أنها ذات أثر سلبي على مستقبل الضمان ودور الضمان ورسالة الضمان، دون أن يسيء إلى أحد أو يقدح أو يجرّح بأحد، وإنْ اتسمت كلماته الناقدة بالجرأة والصراحة، وهذا يُسجّل له بالتأكيد، وقد ثبت أن معظم ما طرحه من أفكار وانتقادات وما حذّر منه من ممارسات وقرارات كان صحيحاً وكان مُحقّاً في ذلك ومُصيباً في رؤيته وبعد نظره..!
وأتساءل هنا كمراقب ومتابع؛ كيف تنظر الدولة إلى شخصية وطنية قيادية مؤمنة مخلصة دينامية مثل شخصية الصبيحي، وما الذي تريده منه، وما الذي يريده هو منها..؟!
لقد تواصلت مع الأستاذ موسى الصبيحي أكثر من مرة، وليست معرفتي به إلا من قريب، وطلبت منه أكثر من مرة أن ينظر لنفسه ومصالحه ويلتفت لشؤونه الخاصة كما يفعل في الشأن العام، كما رجوته أن يتقدم بسيرته الذاتية لجهات محلية ودولية تبحث بل ترحب بأصحاب الفكر والخبرة أمثاله، كما رجوته أيضاً أن يفتح مكتباً خاصاً لتقديم الاستشارات والدراسات في قضايا الضمان والعمل وتشريعاتهما وسياساتهما، لكنه كان يؤكد لي في كل مرة بأن العمل التطوعي متعة وقوة وحرية وسعادة، وأنا أعلم بأنه لا يرد سائلاً وأنه يتلقى كل يوم الكثير من الأسئلة حول قضايا الضمان ولا يتجاهل أيّاً منها، فقد بنى وأسّس مدرسة إعلامية توعوية ومنبراً للحقوق والمعرفة، وليس أدلّ على ذلك من تسليطه الضوء على انتهاكات كثيرة هنا وهناك لحقوق العاملين البسطاء، وتبنّيه لقضاياهم والدفاع عنها بشراسة ودون مجاملة لأحد أنّى كان..!
إنه لا يريد من الدولة شيئاً إلا العدالة والاستقامة وتكافؤ الفرص أمام الجميع.. فلا يطمع في مكسب ولا منصب ولا غيره، ولو أراد لجامل هذا وأثنى على ذاك فناله منهم ما نال الكثيرين من أصحاب الأبواق وهزّ الرؤوس والأعناق..!!!
لقد خاطبت جلالة الملك، وصاحب التاج، في أمر شخصية جدلية استثنائية وطنية حرة كالتي شكّلتها حالة الصبيحي راجياً من جلالته أن يلتفت إلى أمثاله، فهؤلاء مَنْ يُمحَضون الثقة، ومثله مَن يصنع التغيير، ويجترح الإصلاح، ويكون أهلاً لثقة القائد.. والأمل سيبقى معقوداً نابضاً بالأمل لإنصاف رجالات الوطن من أهل الثقة والعزم..