2024-11-26 - الثلاثاء
00:00:00

آراء و مقالات

"العمق الإستراتيجي الأردني ، كيف نفهمه !"

{clean_title}
صوت عمان :  


مقال رئيس مجلس أمناء جامعة الشرق الأوسط الدكتور يعقوب ناصر الدين

ليس أسهل من الهبوط في النظرة إلى قيمة الدولة حين يتم الخلط بين مناقشة السياسات وانتقادها ، وبين تحديد الوضع الإستراتيجي للدولة بما يرسم صورة مشوشة عن تاريخيها وحاضرها ومستقبلها ، ويحط من قدر معظم التحليلات السياسية التي تجتاح ساحتنا الوطنية ، وتخلق حالة من الفوضى الفكرية والثقافية وتبث روحا سوداوية بائسة ومريبة !.

ليس في بالي ولا في خاطري التعليق أو التعقيب على آراء بعينها ، ولعلي أقرب ما أكون إلى النوايا الحسنة عندما يتعلق الأمر بالخوض في قضايانا وشؤوننا الوطنية ، ولكنني استشعر في المقابل بوادر خطر حقيقي ناجم عن استسهال النغز في خاصرة الدولة بدعوى الحث على الانتباه والحذر ، دون الأخذ في الاعتبار أثر التفكير التشاؤمي على المجتمع حين تهتز ثقته بنفسه وقدرته على خوض المراحل الجديدة من تاريخ بلده ، ويفقد ايمانه بقدرات الدولة على معالجة مشكلاتها وأزماتها المزمنة والطارئة.

لقد بلغنا اليوم حالة من الضياع وفقدان التوازن لكثرة ما وقع على الأسماع والأبصار من كلام غير مسؤول يقال على عواهنه ، وكأن الأردن معزول عن محيطه الإقليمي ،وامتداده الدولي ، غير متأثر بالتحولات والأزمات التي تحيط به من كل جانب وأن مشكلته أحادية يمكنه حلها من تلقاء نفسه ، فكيف له أن يدرأ عن نفسه الآثار السلبية لكل تلك الأزمات التي تعيشها منطقة لا تستقر أحوالها أبدا ، وتكاد حدوده تظل مقفلة في وجه كل تعاون وتبادل تجاري ، فضلا عن الحدود غير المصونة إلا من جانبه ، تعبث بها المنظمات الإرهابية ، وتجار المخدرات ، والعقوبات والمحذورات ، ثم لا نسأل أنفسنا كيف يستطيع هذا البلد الصمود في وجه هذا القدر الهائل من المخاطر والتحديات !.

لا شك أن مسألة تحديد الوضع الإستراتيجي للأردن مسألة معقدة للغاية نظرا لطبيعة محيطه الإقليمي المتغير ، وتلك الديناميكية المتبدلة ، تفرض عليه كذلك ديناميكية محلية مماثلة ، لا يمكن تحقيقها إلا بشكل متكامل يجمع بين عناصر الوصف والتوضيح والفهم والتفسير والتوجيه ، وأكثر ما نحتاجه أمام الوضع الراهن هي مجموعة من عناصر التحليل الإستراتيجي التي تمنحنا القدرة على ايجاد البدائل للآراء ووجهات النظر المختلفة ، حتى تستقيم مع التقييم الموضوعي لطبيعة الدولة ، ومكامن القوة التي تملكها ، لتحافظ على كيانها ، ومكانتها ودورها ضمن التوازنات الإقليمية والعالمية .

ما من دولة في هذا الإقليم إلا وتواجه وضعا مماثلا للوضع الذي نواجهه ، بل إن تلك الدول التي توصف بأنها ذات قوة مالية وعسكرية تقف اليوم أمام مجموعة من التحديات نتيجة التحولات المرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا ، والأزمة المتفاقمة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي ، وهي من هذه الناحية أمام خيارات تتعلق بمصيرها ، ومصيرالمنطقة بأسرها.

نحن كذلك نتأثر بهذه التحولات المرتبكة ، ونبحث في عمق الدولة عن ثوابتها ونختبر متانتها لكي نتمكن من التعامل مع الاحتمالات على أساس البناء الداخلي المستقر ، ومن الطبيعي أن نقلق من الأزمة الاقتصادية الراهنة ، ومن تدني الأداء المؤسسي مقارنة مع المستوى الذي يفترض أن يكون عليه في هذه المرحلة التي ندخل فيها إلى المئوية الثانية من عمر الدولة ، مرفوقة بتطوير وتحديث المنظومة السياسية ، وعمليات الإصلاح الاقتصادي والإداري.

وعلى ذلك ، فإن القيام بتحليل إستراتيجي عميق يتطلب أساسا التحرر من الانطباعات الخادعة حول القضايا المرحلية ، ورسم خارطة للتفكير في خصائص الدولة والأسس التي قامت عليها ، ومنها بالطبع أساس الدولة التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى تحمل مشروعا قوميا نهضويا لأمة ترنو للحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية.

إذا كان ذلك المشروع قد تعرض للتحطيم والتشتيت فإن قيمه ومثله العليا تمثل ضمير الدولة الذي يظل يقظا كلما تعلق الأمر بالأمن القومي العربي ، ومناصرة ومساندة الشعوب العربية وغير العربية والتضامن معها كلما أصابها مكروه ، والأمثلة على ذلك نعرفها جميعا ، منذ هجرة الأرمن والشيشان والشركس والفلسطينيين والعراقيين والسوريين وكل من وجد في هذا البلد مساحة للأمن والأمان ولو إلى حين !.

يلعب الزمان والمكان دورا مهما في تشكيل عناصر قوة الدولة ، لكن استقرار النظام وامتداده عبر الأزمنة ، ومكانته في الوجدان الوطني هو حجر الزاوية في الثبات والبقاء ، وقد شهدنا في العقدين الماضيين دولا تنهار بسبب عدم استقرار النظام وحصر السلطة في يد قائد يتوقف مصير بلده على مدى فهمه أو عدم فهمه للتوازنات المحيطة ببلده ، مما أبطل عناصر قوة الدولة الحقيقة في الحفاظ على نفسها ، ومنجزاتها ومصالح شعبها ، والأمثلة كذلك معروفة بقدر ما هي مؤلمة !.

في الأردن نموذج للشعب ليس له مثيل في أي مكان آخر ، أي الشعب الذي تختلط هويته الوطنية بهويته القومية ، فتلك النشأة الأولى للدولة رسخت من الناحية الأخلاقية ، للتحول إلى أحد عناصر قوة الدولة الكامنة في قوة ونقاء الوجدان الوطني ، باعتباره جزءا من الوجدان الايماني المتين ، وغالبا من يتحول هذا الشعور إلى نوع من الاختبار لمعاني الصبر والتحمل والرباط.

ثلاثة عناصر أساسية من عناصر قوة الدولة ، المنظومة الأمنية ، ومؤسسات الدولة العامة والخاصة ، والبنك المركزي ، فالمنظومة الأمنية التي تضم القوات المسلحة " الجيش العربي " والأمن العام ، والمخابرات العامة ، أثبتت على مدى قرن من الزمان أنها القادرة على الدفاع عن أمن الأردن الداخلي والخارجي، أما مؤسسات الدولة رغم كل ما اعتراها من ترهل جزئي ، إلا أنها ترسخ وفق منظومة قانونية مؤسسية مفهوم أو منطق المعاملات والوظائف والمهام ، التي تمثل استقرار المنظومة الإدارية ضمن المفهوم الأشمل لاستقرار دولة القانون والمؤسسات ، بالرغم من الملاحظات المشروعة حول التباين في الأداء ، ومستويات الجودة والحاكمية الرشيدة التي يمكن تحقيقها حين تتخذ الخطوات اللازمة لوضعها على الطريقة المثلى.

أما البنك المركزي الذي يعمل على الحفاظ على الاستقرار النقدي ، ورسم السياسة النقدية ، والرقابة والاشراف على البنوك ، وغيرها من المهام المعروفة للبنوك المركزية فقد أثبت على الدوام قدراته الفائقة على أن يجسد مكانته ودوره في تثبيت حالة الاستقرار ، على أن أحد عناصر قوته مرتبط بمكانة الدولة التي تحظى بالدعم من خلال الايداع فيه من قبل دول شقيقة وصديقة ، بل إن تلك الايدعات تقوم أساسا على الثقة بالسياسة النقدية التي يحظى بها البنك ، وقدرته على الاستفادة منها للحفاظ على استقرار الدولة النقدي.

تلك بعض عناصر قوة الدولة الأردنية ، لكن عمقها الإستراتيجي المستند إلى حد بعيد على تلك العناصر أمر في غاية الأهمية بالنسبة لسلامة الدولة في هذا المحيط الذي وصفناه بأنه متحول ومتغير ، ويحضرني هنا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور أحمد داود أوغلو الذي كان مهندس السياسة الخارجية التركية لفترة حاسمة من تاريخ تركيا ، وذلك في كتابه الشهير " العمق الإستراتيجي - موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية " حول جيوساسية منطقة الشرق الأوسط وقضية التوازنات الداخلية ، معتبرا العاملين الجغرافي والتاريخي عنصرين أساسيين في تحقيق التوازن لجيوسياسية الشرق الأوسط.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مصطلح العمق الإستراتيجي هو في الأصل مصطلح عسكري يستخدم لوصف المناطق الفاصلة بين خطوط القتال على الجبهة وبين المدن الكبرى ومناطق الثقل السكاني والصناعي للدولة ، ويكمن المعيار الأساسي للمناطق التي تشكل عمقا إستراتيجيا في مدى قدرة الجيش على الانسحاب تكتيكيا من تلك المناطق في حال تعرضه لهجوم معاد دون أن يخسر الحرب أو القدرة على مواصلة الحرب.

لكن هذا المصطلح يدلنا من ناحية أخرى على أن إدارة التوازنات في العلاقات الإقليمية والدولية تشبه إدارة الحرب بكل الوسائل المتاحة ، ومن هنا يمكن فهم العمق الإستراتيجي للأردن ، وفهم الكيفية التي أدار بها الأردن مصالحة الإستراتيجية في أصعب الظروف ، وفي منطقة هي الأكثر تعقيدا من أي منطقة أخرى من العالم عبر كل العصور ، وربما هي اليوم على فوهة بركان يكاد يلفظ حممه في أي لحظة ، لكثرة ما تنوء به من أزمات وحروب ظاهرة وخفية.

يقول السيد أوغلو " تعد دبلوماسية الملك الحسين المنفتحة على مختلف الاختيارات وكافة الاحتملات الائتلافية قصيرة المدى ، في علاقاته الثنائية وعلاقاته متعددة الأطراف داخل التوازنات في المنطقة مثالا بارزا على مدى ما يمكن أن تحققه دولة صغيرة من تاثير وقوة في بنية توازنات القوى في الشرق الأوسط ، فقد نجح الملك الحسين في تطوير دبلوماسية مرنة وقادرة على خوض لعبة القوة في منطقة حرجة ، دون تفرد أو انعزال ، وستظل الوضعية الجيوسياسية الحاجزة او الفاصلة التي أرساها أحد العناصر المهمة في المنطقة " ويمضي في تحليل مكانة الأردن وقدرته على ممارسة دوره في تلك التوازنات ، وفي تحليل المرحلة الانتقالية بين وفاة جلالة الملك الحسين رحمه الله ، وتولي جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين مقاليد الحكم فيقول " كان من أهم الأسباب التي حدت بالولايات المتحدة لتبني سياسة مجاملة خلال تلك الفترة الانتقالية للملك عبدالله وللأردن إدراكها أن الأردن سيؤثر في ، ويتأثر بمسألتي العراق وفلسطين ، بل إن الأردن سيكون أحد الدول المفاتيح في السياسات التي سيتم اتباعها عند صياغة الشكل الجديد للانقسام القائم في العراق ، وعند بلورة الوضعية السياسية النهائية للقدس وفلسطين ، ولا شك أن الأداء الدبلوماسي للملك عبدالله لن يؤثر على الأردن وحسب ، بل وعلى مستقبل المنطقة ككل ".

هذا مجرد اقتباس من وجهة نظر شخصية سياسية ودبلوماسية مرموقة ، تكمن أهميتها في أنه ينتمي لبلد يلتقي مع الأردن وينفصل عنه في سياق تاريخي ، أوجد تركيا وريثة للخلافة العثمانية ، وللعلمانية الأتوتوركية ، وأوجد الأردن وريثا للثورة العربية الكبرى ، وللشرعية الهاشمية الممتدة للنبي العربي الهاشمي محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فأيهما اليوم أهم من الآخر في طبيعة التوازنات ، خاصة في الجزء العربي من منطقة الشرق الأوسط ؟.

لا يمكن لنا الاستمرار أبعد مما وصلنا إليه من سوء الفهم والتعبير عن القيمة الإستراتيجية للأردن ومصالحه العليا ، بنظامه وشعبه ومؤسساته المدنية والعسكرية ، وتاريخيه وموقعه الجيوسياسي ، ونهوضه الحضاري ، والتمادي في رسم صورته بالطريقة التي يشتهي أعداؤه وخصومه أن يكون عليها لا سمح الله ، فقد حان الوقت لوضع حد لكثير من الهراء ، والكلام غير المسؤول ، والنظرة القاصرة عن الفهم والتحليل والتفسير ، والاستهزاء بقيمة الدولة ومكانتها ، وبدماء الذي ذادوا عن حياضحها ، وعرق الذين بنوا كل صرح فيها ، ونضال شبابها في سبيل بناء مستقبلهم وتحقيق طموحاتهم.

لم يعد الأمر يتعلق برسم الصورة جميلة أو قبيحة ، وإنما بالموضوعية لكي تكون جميلة وحقيقية ، لا تحتمل التشويه أو التزوير أو التعتيم ، ذلك أن الثقافة الوطنية التي تبجل الأردن الوطن النبيل ، وتعظم الانتماء لترابه ، هو العنصرالأكثر أهمية في تشكيل عمقه الإستراتيجي العصي على الاختراق ، بل والقادر على كسب جميع معاركه ، والانتصار على التحديات مهما بلغ حجمها ، وأيا كان مصدرها وموعدها.