بينما ينشغل الجميع بأخبار النخبة في عمان (مؤتمرات وشو إعلامي وقوى نفوذ وأحزاب وإنتخاب وتوزير... إلخ) بجانب تنمية لا تحدث عن كل ما سبق، فنذكر بأن المحافظات الأردنية لا يمكن أن تبقى على حالها كسفن هائمة بلا بوصلة ولا خارطة، بينما تبقى تعتمد على الخزينة والحكومة المركزية، ويزداد الشباب فيها فقرا وبطالة والأسر تزداد إعتمادا على المعونة الوطنية والتنمية الإجتماعية، ويرتفع الطلب مع الزيادة السكانية على المياه والأراضي والطاقة والصرف الصحي والسكن والوظائف والخدمات من تعليم وصحة، وصيانة القائم من بنى وخدمات... إلخ، وغالبا التمويل للمشاريع الرأسمالية شحيح، وهذا خطير جدا بحق التنمية وإستدامتها.
الصورة الصحيحة وكما في دول العالم، هي أن تكون المحافظات محركات تنموية منتجة قادرة ذاتيا إقتصاديا وماليا على تمويل متطلبات التنمية وتشغيل شبابها، وتدعيم بناها التحتية والفوقية وشبكاتها وخدماتها بالكم والنوع والجودة، مع صيانتها وإستدامتها، بجانب مراعاة عناصر التطوير دائما.
ويقوم ذلك على الميزة التنافسية لمجموع مكونات المحافظة؛ سياحة، زراعة، صناعة، تجارة، مال وأعمال، تكنولوجيا معلومات، تعليم وإبتكار وبحث علمي، خدمات، ثروات طبيعية، ... إلخ.
أصدر جلالة الملك تعليماته للحكومات المتعاقبة لوضع خطة تنموية لكل محافظة، وتطوير خارطة إستعمالات الأراضي لها، ووضع خارطة إستثمارية كذلك لكل محافظة.
جلالة الملك في جهوده المتواصلة يحاول تعزيز سبل التنمية في المحافظات الأردنية، وقد أصدر لذلك أوامره سابقا بإيجاد صندوق لتنمية المحافظات.
قد يوفر النموذج التنموي التالي والذي إقترحناه للطفيلة قبل نحو عامين حلولا شافية عند تطبيقه على بقية المحافظات، على الأقل نستطيع أن نعطي الناس الأمل، ونجعل لهم نصيب تنموي من العوائد المالية في محافظاتهم ...
فقد كتبت العام الماضي ما يلي:
قبل أيام قليلة حللت ضيفا في المخيم السياحي البيئي في الطفيلة والمطل على محمية ضانا، وهذا المخيم أنشأه الزميل الجيولوجي والعضو الزميل في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية الشاب الريادي أحمد السعودي، وهو تبارك الله أصغر الأعضاء سنا في مجالس اللامركزية للدورة الماضية.
جلسنا مع زوار المخيم تحت النجوم نستنطق الطبيعة وفي كل مرة يحكي لي زميلي أحمد عن معاناة سكان المحافظة وأهلها من قلة الفرص وتحديات الفقر والبطالة، أمام شباب متعلم وجاد وطموح ويسعى لتحقيق ذاته وسط بحث دائم عن الفرص، والتي لا تجود بها الظروف.
مررت خلال العودة للعقبة بمسقط رأسي العزيزة وادي موسى حاضنة البترا عاصمة الأنباط، ونزلت ضيفا على زميلي سابقا وصديقي مدير البيئة في مفوضية البترا المهندس عيسى الحسنات وحادثته عن الزيارة، وما زالت المدخلات والنمذجة تغزو فكري لتطوير نموذج تنموي إقتصادي تصوري متزن وقابل للنطبيق يصلح في المحافظة الهاشمية الطفيلة.
اليوم مساءا وبعد تفكير عميق خلصت إلى النموذج بأركانه كاملة، ويقترح ما يلي:
١- يؤسس بقانون وتشريع خاص لذلك "مجلس تنموي أعلى" في محافظة الطفيلة يتكون من عطوفة المحافظ ورؤساء البلديات في المحافظة، ورئيس مجلس اللامركزية، ومدير المنطقة الصناعية التنموية، ورئيس جامعة الطفيلة التقنية، ومدير محمية ضانا، ومدير شركة مناجم فوسفات الحسا، وثلاثة من ذوي الخبرة والمعرفة والتخصص من أبناء المحافظة، ويهدف إلى تطوير المحافظة تنمويا وسياحيا وإستثماريا (صناعة وسياحة وأعمال وزراعة وخدمات... إلخ).
٢- يمنح المجلس صلاحيات مالية وواجبات تنموية مختلفة (تنمية وتشغيل، تطوير أراضي، تطوير بنى فوقية وتحتية وشبكات، تطوير خدمات وبيئات أعمال وإستثمار وسياحة) وذلك في كافة أنحاء المحافظة.
٣- يتم رفع تذكرة الدخول لمحمية ضانا إلى ٢٥ دينار للسائح الأجنبي، تذهب منها الحصة الإعتيادية للجمعية الملكية لحماية الطبيعة والباقي (١٨ دينار) تعود ماليا لصلاحيات المجلس التنموي الأعلى.
٤- يتم السعي لتسجيل محمية ضانا على قائمة اليونسكو، وتعلن البترا الطفيلة وادي رم العقبة "مربعا سياحيا ذهبيا" بدلا من المثلث الذهبي السابق، وتروج له وزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة.
٥- يتم عقد إتفاقيات مع جمعيات المكاتب السياحية والأدلاء السياحيين المحليين في الطفيلة (على فرض تأسيسها)، وجمعية الخدمات السياحية في الطفيلة (فنادق ومخيمات بيئية سياحية ومطاعم سياحية)، وشركة النقل السياحي البيئي المحلي (على فرض تأسيسها) والجمعيات المنتجة للحرف اليدوية السياحية، والجمعيات التي تدير بعض المواقع السياحية كحمامات المياه العلاجية الطبيعية، وذلك لغايات سبل تشغيل وترويج وتسويق المنتجات السياحية البيئية شاملة الآثار والتراث والسياحة الفلكية والسياحة الجيولوجية والإستشفائية والمسير والتنوع الحيوي وسياحة التأمل... إلخ،
٦- يتم تطوير مخطط شمولي إستراتيجي تنموي للمحافظة لعشرين سنة قادمة، لتطوير إستعمالات الأراضي خارج التنظيم والتنمية والتطوير والتشغيل وإسقاطات حاجات البنى الفوقية والتحتية والشبكات والخدمات من صحة وتعليم وطاقة ومياه وغيرها، وتطوير بيئات الأعمال والإستثمار والسياحة، وينبثق عن المخطط الشمولي خطة تنفيذية تفصيلية لأول خمسة أعوام تهدف لإحداث تنمية في شتى الميادين تؤدي لتشغيل وتوظيف ما لا يقل عن خمسة آلاف شاب وشابة. ويضع رؤية لزيادة دخل المحافظة خلال الخمسة سنوات الأولى إلى ١٠٠ مليون دينار سنويا، يقابله رفع أعداد السياح السنوي وزيادة فترة المكوث وتنويع المنتج وتحسين جودة الخدمات السياحية.
٧- تتعاون البلديات والجامعة ومجلس اللامركزية والمدينة الصناعية وشركة الفوسفات وشركة الإسمنت وإدارة المحمية فنيا وبشكل أفقي، وتوحد جهودها وأهدافها التنموية ما أمكن لخدمة المجتمعات المحلية، ويمكن للمجلس الأعلى إجراء نوعا من التطوير المؤسسي وإعادة الهيكلة على البلديات والمحمية والمنطقة الصناعية مقابل تدريب وتأهيل كوادرها لإيجاد جسد وظيفي قادر على تنفيذ الخطة التنموية التنفيذية بجودة عالية.
٨- يتلقى المجلس (إضافة لعوائد فرق تذكرة دخولية المحمية) مساعدات من الحكومة بواقع ٨ مليون دينار سنويا ولأول خمسة أعوام، وتملك أراضي المدينة الصناعية للمجلس وله ولاية تأجيرها وإستثمارها وبأنظمة ومعايير معينة وشفافة.
٩- يستغل المجلس الحوافز التشجيعية لمنطقة الطفيلة الصناعية من ضرائب مخفضة على كلف الإنتاج... إلخ، وبالتعاون مع شركة الفوسفات وجامعة الطفيلة التقنية لتطوير وإنتاج صناعات الإبتكار وصناعات تعدينية للسوق المحلية يوقف إستيراد شبيهاتها إن وجدت.
١٠- تؤسس حاضنات إبتكار وأعمال في مختلف قرى الطفيلة، وتزودها مختلف الجهات في المجلس الأعلى بأسباب النجاح، ليخرج متدربوها بقوة إلى سوق العمل.
١١- المجلس متكافل متضامن لتنفيذ وتحقيق أهدافه ورؤيته وما يأتي على المخطط الشمولي والخطة التنفيذية.
١٢- تملك أراضي الخزينة خارج وداخل التنظيم للمجلس، وله الحق بتطويرها ضمن الرؤى والخطط المتوافق عليها.
١٣- يؤسس مجلس إستشاري من أبناء المحافظة يتم تسميته أو إنتخابه وضمن معايير عادلة، ويقوم بإسناد المجلس التنموي الأعلى، ويشكل له حلقة الوصل مع المجتمع المحلي.
١٤- توضع مؤشرات لقياس تقدم سير العمل ونجاح الرؤية كاملة.
١٥- يرتبط المجلس التنموي الأعلى بخلية إدارية تشمل قيادات الوزارات والمؤسسات التي تعود لها مكونات المجلس، وترتبط الخلية الإدارية بدولة رئيس الوزراء مباشرة.
يمكن في حال نجاح النموذج تطبيقه على باقي المحافظات مع مراعاة الإختلافات والحاجات التنموية.
الأمر يحتاج بالتأكيد دراسة متخصصة للأثر الاقتصادي والتنموي والاجتماعي والاداري وغيرها لهكذا قرار، وبحث أفضل آلية لتنفيذه، وبما يعظم العوائد المرجوة ويحد من أية تبعات سلبية.