تخيّل أن في جوالك تطبيقاً تستطيع من خلاله اختيار أي أغنية تحبها - أو تكرهها لا فرق - بصوت مطربك المفضّل، فتسمع مثلاً أمّ كلثوم تغني "بوس الواوا" لهيفاء وهبي، أو صباح فخري يسلطن في أغنية "سكر محلّي" لحسن شاكوش.
المسألة ليست نكتة ولا للتندر كما كان يفعل مقلّدو الأصوات حين يغنون أغنية لمطرب معروف بصوت مطرب آخر وحركاته بقصد الإضحاك، بل ببركة الذكاء الاصطناعي تحقق هذا الأمر لمن يتقنون استخدامه، وبعد فترة قريبة جداً سيصبح متاحاً في جوالاتنا مجاناً، فيستطيع الصغير والكبير استخدامه بسهولة كما يستخدم تطبيقات المحادثة.
وإذا كانت تقنية "الهولوغرام" تستحضر جسد المطرب في صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام أشعة الليزر كأنه حاضر معنا، فقد أصبح الآن بالإمكان جعله يغني بما يريد مستعملُ البرنامج. ولعل ما فعله الملحن عمرو مصطفى حين نشر إعلاناً ترويجياً لأغنية بعنوان "أفتكرلك إيه"، من ألحانه وبصوت أم كلثوم، دقّ ناقوس خطر كبير عن فوضى عارمة ستصيب ميراثنا الموسيقي، وقد تنبّه الفنانون والموسيقيون الغربيون إلى هذا الوحش القادم فأطلقت مجموعة كبيرة منهم حملة "الفن البشري" حتى لا يَقتل "الذكاء الاصطناعي الإبداع البشري"، بل اعتبر المغني البريطاني "ستينغ" أن الفنانين قد يضطرون لخوض معركة للدفاع عن أعمالهم في مواجهة الذكاء الاصطناعي.
وهذا الاستنساخ لأصوات المطربين لا يتعلق بالجانب التراثي والعاطفي فقط، وبعيداً عن شكوكنا هل يستطيع الصوت المستنسخ بالذكاء الاصطناعي أن يحمل أحاسيس الفنان الحقيقي وانفعالاته؟ للمسألة وجه قانوني مهم يتعلق بحقوق الصوت نفسه، ممّا يفتح الباب واسعاً للتعدّي عليها والكسب غير المشروع. والمشكلة الكبيرة أن الطفرة الكبيرة التي حدثت في استنساخ أصوات الفنانين أسرع بما لا يقاس من إصدار القوانين التي تحميها وتنظمها، بل ستقضي على مهن كاملة مثل مهنة الموزّع الموسيقي، فما كان يدرسه الموزع لمدة سنوات في معاهد الموسيقى العليا يمكن لأي برنامج توزيع موسيقى مجاني أن يقوم به في دقائق معدودة.
لن أستغرب بعد الآن إذا وجدت صوتي - وأنا التي قضيت نصف عمري في الإعلام المرئي - على "بودكاست" لم أسمع به من قبل يتحدث عن رياضة الهوكي على الجليد مثلاً. أنا لست ضد التكنولوجيا ولا ضد التطور بل أرى أن الذكاء الاصطناعي قفزة عظيمة في مسيرة البشرية، أتمنى فقط أن يترك لنا شيئاً على طبيعته، فكم أخشى أن يحدث للفنانين ما حدث لهبنقة الذي كان يضع في عنقه قلادة يَعرفُ بها نفسه، وحين رآها في عنق أخيه سأله مندهشاً: "يا أخي أنت أنا فمن أنا؟".
• لن أستغرب بعد الآن إذا وجدت صوتي - وأنا التي قضيت نصف عمري في الإعلام المرئي - على "بودكاست" لم أسمع به من قبل يتحدث عن رياضة الهوكي على الجليد مثلاً.