لنتخيّل المشهدَ التّالي: شِجارٌ في الطّريقِ العام، مارٌّ يحاولُ فضَّ الخِلاف، وآخر يصوِّرُ المشهد ببثٍّ حيٍّ ومباشر. أيُّ الطّرفين على صواب؟ إن كان السؤال مُباشرًا أكثر من اللازم، لنحوّرَه قليلًا، ونسألَ: ما الصّوابُ هُنا؟ ما الصّوابُ في أيِّ شأنٍ من شؤونِ الدّنيا؟
لا نُلقي هذه الأسئلة جُزافًا، رغبةً في إخمادِ النّارِ، فأشعّتها قد أعشت العيونَ حدًّا لم تعُد معه ترى كما ينبغي. "شجارٌ في الجامعة الأردنيّة"؛ عنوانٌ مثيرٌ لإشعالِ فتيل النّقاش، كي لا نقول إثارة الجدل، وكأنَّ الجامعة مكانٌ خارجٌ عن الطّبيعة، من يذرعون طرقاتها بشرٌ غير البشر، لا مواطنونَ مثلنا ومثلكُم، لهم همومهم ومواقفهم، مشاكلهم وحسناتهم.
الحُكمُ أسهلُ الأفعالِ البشريّة، لكنّه أسرعها مآلًا للخطأ، وغربلةً لما لا نودُّ مواجهته: أنّ هؤلاء الطّلبة يشبهوننا، فهم أبناؤنا أوّلًا قبلَ آخِرًا.هل في ذلكَ إعفاءٌ أو تبريرٌ لما حصل؟ لا، وبالخطّ العريض. وكما سبقَ لرئيسِ الجامعة الدكتور نذير عبيدات التّصريح، فإنّ "القانون في الجامعة الأردنية هو سيد الموقف والأساس، ولن يكون هناك أي تهاون في تطبيقه، خاصة فيما يتعلق بالمشاجرات الطلابية".
لكن لنعُد خطوةً إلى الوراء: ما دورُنا نحنُ، بوصفنا تربويّينَ وإعلاميّينَ في هذا الوطن الذي نعتزُّ بالانتماءِ إليه؟ نصفُ الجوابِ في الأعلى، "أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره"؛ إذ لكونِهم أبناءَها، ارتأت الجامعةُ ألّا تتساهلَ وإيّاهم. ثمّ ماذا؟ هل توقّف الأمرُ عند هذا الحدّ؟ كلّا، فقد شهِدنا سيلًا من الحبر المُهرقِ على الصّفحات، ووابلًا من الكلام يصبِغُ الألسنة، ونارًا توقدُ لا طمعًا بالدفءِ، بل برؤية اللهبِ يُشعلُ الآماقَ وحسب.
هذه دعوةٌ جادّةٌ للتّفكيرِ برويّةٍ تشرفُ الجامعةُ أن تُنسبَ لها، فما المعرفةُ سوى مرادف للحكمة، تلك التي كانت بيتنا أيّام الدّولة العبّاسيّة. الجامعةُ الأردنيّة وسواها من الجامعات، تمثّل استعارةً عن الوطنِ الكبيرِ، مُلتقًى يجتمعُ فيه أبناؤنا وبناتُنا من المحافظاتِ الاثنتي عشر، من الدّول العربيّة من محيطها إلى خليجها، ومن شتّى البقاعِ والآفاق الممتدّة على طولِ الكرة الأرضيّة وعرضها؛ 54 ألف طالبٍ في حركةٍ دائبة، والحركةُ في الفيزياء تعني الصّدام، الاحتكاك، توليدَ الطّاقة، والطّاقة دابّةٌ في العروقِ أنّى حيينا، فكيفَ لا يُتوقَّعُ أن يحتدمَ الصِّدامُ، والجسدُ بهِ محمومٌ؟ لكنّ الفارقَ، أنّ الجسد حين يُحَمُّ، نلجأ إلى الطّبيبِ فيهدأ، أمّا الشِّجارُ، ذاكَ الذي بدأ واحتدمَ وانتهى في أقلِّ من دقائق عشر، ذهبَ بالنّاسِ مذهبَ الشكِّ في ستّينَ عامًا لم تبخَلِ الجامعةُ بها لا نفسًا ولا جهدًا، سواء على طلبتها أم على هذا المُجتمعِ، الذي نطمعُ وما زِلنا في رؤيتِه عاليًا خفّاقًا كما رايةُ الأردنّ "ساميًا مقامهُ، خافقاتٍ في المعالي أعلامهُ".
التّاريخُ ليس رأيًا على شاشةِ تلفازٍ، بل حقيقةٌ ثابتة، ففي اللحظة التي يُتنازَعُ على رأيٍ فيها، علينا أن نعودَ إلى الوقائع، والوقائع، كما أثبتتها كاميرات المراقبةِ، أنَّ من افتعلَت الشّجارَ كانت ثلّة من خارجِ الجامعة، دخلت حرَمها بدون شرعية، وغذّت الصّراعَ لغايةٍ في نفسِها. ونودُّ التّأكيدَ في هذا الصّددِ أنّ الجامعةَ الأردنيّةَ تُدركُ جيّدًا معنى "الحرمِ"، وأنّ يدها ليست قصيرة أن تأخذ بحقِّ نفسِها، لكنَّها كذلك ليست غافلةً عن ضلوعِ طلبتِها فيما حدثَ، ولن تتّخذَ حيادًا منزوعَ الموقفِ إزاءه، فالأمُّ الرؤومُ تقسو أوّل ما تقسو على أطفالِها، وفي هذا خيرُهم وخيرها، ذاكَ الذي يرقي، كما تفخرُ دومًا، إلى مصافّ العالميّة.
أمّا الرّأيُ، ذاكَ القائل بوجوبِ فتحِ الجامعةِ أبوابها على المجتمع، والذي استمعنا إليه بآذان صاغية، فنردُّ عليه بأمرين اثنين: ليس الهدف من الرّقابة على مداخل الجامعة التدخلّ في حياة النّاس الخاصّة، بل توفير أفضل مساحةٍ للطّلبةِ لينعموا بحياةٍ جامعيّةٍ هانئة، حياة ملؤها الثقة بأنّ هذا المكان رديف لبيوتِهم، مكانًا آمنًا يكرّسونه للعلم وبناء العلاقاتِ النّاجعة.
أمّا الإجابة الثّانية، فتقضي بأنّ أبوابَ الجامعةِ لم تكُن يومًا مُغلقة، إلّا إذا كُنّا نتحدّثُ عن المعاني المباشرة، تلك التي تسُدّ أبواب الحوار قبلَ الخوضِ فيه؛ هنا، الكلُّ مُرحَّبٌ فيه، فطلبتُنا العربُ والأجانبُ لم يحظوا يومًا بتجربةٍ مُعسرةٍ في جامعةٍ باتت نافذتهم على هذا البلدِ الأمين. ونذكّرُ، بأنَّ الطّريقَ الذي اخترناهُ للتقدُّمِ ينطوي على استقطابِ مزيدٍ من أولئك الطّلبة، ودورُ الإعلامِ الحقِّ، لا أن يروّجَ صورةً مغلوطةً ومجتزأةً من حدثٍ شيء أن يُسلَّطَ عليه الضوءُ وحدَهُ، فباتَ عريضًا عرض الشّاشاتِ، بل أن يمُدَّ يدَ العونِ لإصلاحِ المُشكلةِ، والعنايةِ بتلكِ الصّورة التي تُمثّلنا، فبذاك نكبُرَ وإيّاه كما كان ينبغي، وسيظلّ.
لقد شرعت الجامعة بخطوة الحلِّ الأولى والثّانية، فلجانُ التّحقيقِ فيما حدثَ باشرت عملها، وخطّة لتأمين مداخلِ الجامعةِ بأتمتتة البوّاباتِ دخلتِ مجالَ التّفكير والتّنفيذ من ثمَّ، لكنّنا قبل هذا وذاك، نظلُّ أبناءَ وطنٍ واحدٍ، وعلينا ألّا نهربَ من مسؤوليّتنا سواء داخل الجامعة أم خارجها، فحينَ نكبُرُ، نكبرُ مجتمعين،َ وحينَ نتداعى، نتداعى مجتمعينَ كذلكَ، كما جاء في حديث رسول الله عن سائر الجسد.