2024-11-27 - الأربعاء
00:00:00

آراء و مقالات

الأردن الذي ننتمي إليه

{clean_title}
عبدالمنعم العودات
صوت عمان :  
 

أبدأ من زاوية مفتوحة للبحث والتأمل حول البعد التاريخي والقيمي للدولة الأردنية التي نشأت العام 1921 تحت اسم "إمارة شرق الأردن ” على يد الملك الهاشمي المؤسس عبدالله الأول بن الحسين، إبن الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى، والمشروع النهضوي العربي، الذي اصطدم بالمشروع الاستعماري البريطاني الفرنسي، فكان الأردن آخر ما تبقى من ذلك المشروع العظيم، بعد أن قضي عليه في سورية ثم في العراق.

ما من بلد في هذه المنطقة قد تأسس على هذا النحو من القومية العربية مثل الأردن، ولم يكن استقلاله إلا حصيلة نضال سياسي، ومطالبات شعبية كان لها أثرها المباشر في نيل الاستقلال، وبأعلى درجات التلميح إلى بدائل أخرى إذا وصلت المطالبات السياسية إلى طريق مسدود، فتأسيس إمارة شرق الأردن، ومن بعده استقلال الأردن هو قضية نضالية عبرت عن طموحات الأردنيين والعرب وحقوقهم المشروعة في الكرامة والحرية والاستقلال الوطني، والوحدة العربية.
البحث من هذه النقطة يقودنا إلى فهم واستيعاب المراحل التي شكلت القواعد التي قامت عليها الدولة الأردنية، في المحيط الجيوسياسي، الذي نشأت فيه أشكال مختلفة من الكيانات السياسية، قبل نشوء الكيان المحتل، ذلك أن النظام السياسي الأردني ظل يتفاعل ويتطور منذ نشوء الإمارة ضمن عملية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تلبي العناصر التي تتشكل منها الدول بسلطاتها ومؤسساتها وتشريعاتها وقوانينها الناظمة للحياة العامة.
والتأمل يفتح أمامنا السبل كي نرى ذلك التدرج في التاريخ السياسي لبلدنا المحكوم بالواقع الإقليمي، والقوى الدولية السائدة في ذلك الحين، ونرى الصراعات الخفية والظاهرة بين المبادئ والقيم والمثل العليا الكامنة في وجدان الأوائل ممن حملوا مسؤوليات تلك المرحلة، وبين النزعة الاستعمارية القادرة على فرض الأمر الواقع بالقوة، وتلك حقيقة لم تغب يوما عن هذه المنطقة من العالم، ولم تزل!
يمكننا حين نقرأ الحوادث والأحداث أن نتوقف طويلا عند الحيوية السياسية في مرحلة التأسيس، بتشكيل أول حكومة لشرق الأردن، وما رافقها من نضال في سبيل تشكيل مجلس تشريعي، فقد خاض الملك المؤسس والأردنيون معا معركة بناء الإمارة ساعون إلى أن يتزامن تشكيل أول حكومة مع البدء بتنظيم انتخابات لأول مجلس تشريعي أردني ظل المستعمر يجهض فكرته إلى أن تأسس أول مجلس تشريعي العام 1929 لتبدأ الحياة البرلمانية المؤسسية، وتتطور بعد استقلال البلاد في العام 1947، وتتنامى معها الأحزاب السياسية، وتتعمق الوطنية الأردنية، بناء على دستور عظيم العام 1952 على يد الملك طلال بن عبدالله، لتبنى الدولة الحديثة بعد ذلك على يد المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه .
لقد تعرض تاريخ بلدنا لكثير من حملات التشكيك لتاريخه وحاضره ومستقبله، وسعت جهات عديدة للتقليل من شأن الأردن، وخلق ثقافة معادية لمفهوم الدولة ودورها ومكانتها الإقليمية والدولية، وسعت من خلال الجدل والنقاش العقيم والفوضى الفكرية إلى المساس بالهوية الوطنية لتعتيم ملامحها، وتشتيت أوصافها وبعثرة منظومة القيم والمبادئ والمثل العليا التي تكونت منها.
هنالك فارق كبير بين منهج التشكيك والجدل وبين منهج المراجعة الموضوعية للسياسات العامة والأداء المؤسسي التي تأخذ بنقاط القوة كي تزيد من قوتها، ونقاط الضعف لتعالجها، والتحديات لتحليلها ووضع الإستراتيجيات والخطط من أجل مواجهتها، وتحويلها إلى فرص يمكن استثمارها والاستفادة منها، كل ذلك في إطار من التشاركية والشفافية والمساءلة، وصولا إلى تعظيم قوة الدولة، وعوامل ثباتها ومنعتها، وقدرتها على إنجاز مشاريعها الإنمائية، ونهضتها الحضارية.
أتوقف مرة أخرى عند مرحلة صعبة من تاريخ بلدنا يوم أن قامت وحدة الضفتين الشرقية والغربية في نطاق المملكة الأردنية الهاشمية بعد معارك الشرف التي خاضتها قواتنا المسلحة الأردنية – الجيش العربي في حرب فلسطين، وعززتها العلاقات الأخوية الممتزجة بين الأردنيين والفلسطينيين وكأنها ولادة قيصرية من رحم المشروع الوحدوي العربي، أستشهد بسببه أو من أجله المؤسس عبد الله الأول على مسافة قريبة جدا من قبر والده الشريف الحسين بن علي، المدفون في ثرى الحرم الشريف والمسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، وما هي إلا سنوات ” سبع عشرة” على تلك الوحدة العظيمة حتى انسلخ الجناح عن الجناح بعد حرب حزيران العام 1967، ولكن القلب لم ولن ينسلخ عن القلب، فتجسدت وحدة الهدف والمصير، وبقيت قضية فلسطين قضية حياة أو موت بالنسبة لنا هنا على أرض الرباط، وهناك على أرض الكفاح والصمود .
مائة عام لم يعش الأردن لذاته في كل مراحل الأمة وقضاياها، وصراعات المنطقة وحروبها ومآسيها، ساعة يهب لنجدتها، وأخرى يضمد جراحات ضحاياها، يلجأون فيه إلى مساحة الأخوة والرحمة والطيبة والمحبة والأمان، ويجدون السكينة والطمأنية في ربوعه أينما حلوا أو ارتحلوا، حتى بلغ الأردن في إنسانيته أنه صار جزءا فاعلا من قوات حفظ السلام الدولية، حين تتدخل في أرجاء الدنيا كي تحمي الإنسان من ظلم الإنسان.
تلك هي القيم الراسخة التي قام عليها هذا البلد الصغير في حجمه، الكبير في دوره ومكانته الإقليمية والدولية، تزيد عليها أو تكملها قيمة الإنسان الأردني الذي جعله دستور وطنه مصدرا للسلطات، وجعل نظامه نيابياً ملكيا وراثيا، ليكون الشعب هو النظام، ويكون النظام هو الشعب في وحدة وعهد وبيعة عزّ نظيرها في أي مكان آخر.
هذا بعض يسير من تاريخ الدولة الأردنية، ولكن ماذا عن تاريخ الأرض الأردنية التي قامت عليها كل الحضارات الإنسانية تاركة أثرا لها في ربوع الأردن كله، وماذا عن جند الأردن وحصاده وسيوفه في التاريخ العربي، والمسيحي والإسلامي أليس هذا هو المعنى العميق لجذوره التاريخية المجيدة، وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، ورسالته الإنسانية الحضارية التي يعيد جلالة قائدنا الملك عبدالله الثاني قراءتها على العالم كله، مناديا بالسلام والوئام في كل مكان، مجاهدا في سبيل الدفاع عن الإسلام الحنيف، حاميا للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وصيا على الحرم القدسي والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، مكافحا في سبيل منح الشعب الفلسطيني الشقيق حقه في دولته المستقلة على أرضه بعاصمتها القدس، مدافعا عن سلامة ووحدة بلاد عربية شقيقة لنا، تمزقها المؤمرات والحروب الأهلية، وتعصف بها العصبية والطائفية والمذهبية !
يعيش الأردن منذ عشرين عاما عهد جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، عقدان من زمن هذه المنطقة، هما الأصعب والأخطر في تاريخ بلدنا الذي اختلت كل المعايير من حوله بغزو العراق، وتدمير سورية، وانسداد الآفاق في وجه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهجمة الإرهاب الداعشي، وأخيرا جائحة الكورونا وما نجم عن ذلك كله من أعباء تنوء بها الجبال، فكان الأردن بقيادة جلالته صامدا في وجه تحديات لم يسبق لها مثيل، ونحن جميعا نعرف ونلمس الأثر الاقتصادي الذي تسببت به تلك الأوضاع الإقليمية، دون أن نجعلها السبب الوحيد لأزمتنا الاقتصادية التي حان الوقت لكي تنهض المؤسسات العامة والخاصة بمسؤولياتها للتغلب عليها، ومعالجة آثارها، وفي مقدمتها الفقر والبطالة، ودعم القطاعات التي تأثرت بجائحة الكورونا، وغير ذلك مما يضيق به المجال في هذا السياق.
في كل ركن من بلدنا الأردن هنالك قصة نجاح أقرب لأن تكون معجزة، حتى بلغنا أعلى المراتب في التعليم والصحة والصناعات الدوائية، والزراعة رغم شح المياه، والصناعات رغم شح الموارد، والعمران والخدمات والإنشاءات والطرق رغم قلة مداخيل الدولة، لقلة ثرواتها الطبيعية، مقارنة بدول لا ينقصها شيء من تلك الإمكانات الضرورية لتحقيق نهضتها.
قلنا الإنسان أغلى ما نملك، تلك المقولة التي أطلقها الحسين الراحل العظيم ذات يوم، وأكد عليها جلالة قائدنا ما كانت إلا لكي يعرف الأردنيون مكانتهم في مساحة المجد وليس في مساحة المال، وكي يعيد أولئك الذين رأوا فقر الأردن المادي النظر كي يروا غناه في صبره وتعففه وعنفوانه، وشموخ أهله.
حين يكون التاريخ قدرا إلهيا يختار المكان والإنسان ليكون موجودا على الأرض التي بارك فيها وحولها، وجعل منها مهدا لرسالاته السماوية، ومستقرا لأنبيائه، تصبح الفكرة أكبر وأسمى من البحث والتحليل، وتصير الغاية هجرة لله ورسوله العربي الهاشمي الأمين، وما الأردن الذي ننتمي إليه إلا قدرا يفخر أهل هذا البلد بقيادته الهاشمية النبيلة، فهم مأجورون عند العلي العظيم بشكر النعمة، وبالصبر على الغمة، وبالسعي الشريف لعيش كريم، ونهج مستقيم، وأيد تعمل، وأكف ضارعة إليه أن يحفظ الأردن ومليكه وشعبه، وهو السميع البصير المجيب .

 

*رئيس مجلس النواب