كتب عبدالرحمن خلدون شديفات
في خضم المشهد السياسي المعقد، الذي تتداخل فيه الهويات وتتشابك فيه الولاءات، يبرز سؤال جوهري يتشاركه الكثيرون في صمت أو علانية: لماذا لا أنتمي إلى حزب سياسي يرفع راية الدين أو يتحدث باسمه؟ هذا ليس مجرد موقف شخصي، بل هو انعكاس لفهم عميق لطبيعة الإيمان من جهة، ولآليات العمل السياسي من جهة أخرى. إنه سؤال يستحق أن يُطرح بصراحة ووضوح في زمن كثرت فيه المتاجرة بالدين لأغراض سياسية.
الإسلام أولاً.. وقبل كل تنظيم:
الجواب يكمن في جوهر العلاقة بين الفرد وإيمانه. الإسلام، بالنسبة للمسلم، هو رابط مباشر بينه وبين خالقه، شهادة قلب وعمل جوارح، لا يتطلب وسيطاً تنظيمياً أو انتماءً حزبياً ليصح أو يكتمل. إنها حقيقة بسيطة وعميقة في آن واحد: أنا مسلم قبل أن أعرف هذا الحزب أو ذاك، وأنا مسلم قبل أن يتشكلوا ككيان سياسي، وسأظل مسلماً بعد زوالهم، ولن يزول إسلامي بغيابهم.
إن الانتماء إلى حزب سياسي، أي حزب، هو في النهاية اختيار بشري، يخضع للتقييم والنقد، ويقوم على رؤية سياسية قابلة للصواب والخطأ. أما الإسلام، فهو منهج حياة وإيمان مطلق، لا يمكن اختزاله في برنامج سياسي لحزب معين، ولا يمكن جعله رهينة لوجوده أو بقائه. كل المسلمين هم جزء من الأمة، ولا يملك أي حزب، مهما كانت مرجعيته المعلنة، احتكار تمثيل الإسلام أو المسلمين. الإيمان هو ملك للفرد، لا يمنحه إياه حزب ولا ينتزعه منه آخر.
رفض المتاجرة بالعاطفة الدينية:
ما يثير التحفظ الأكبر على فكرة الانتماء لحزب "ديني" هو المنهج الذي تتبعه بعض هذه الأحزاب في استجداء العطف والتأييد. غالباً ما تعتمد على مخاطبة الوازع الديني والعاطفة الإيمانية، قبل أن تخاطب العقل وتُقدم برامج سياسية واضحة وقابلة للتطبيق. كأنها تقول: "انتمِ إلينا لأننا نمثل الدين، وإلا ففي إسلامك نقص". هذا المنهج يخلط بين المقدس والمدنس، ويستغل أقدس ما يملك الإنسان (إيمانه) لتحقيق مكاسب سياسية دنيوية.
نعم، الإسلام يحث على العمل الصالح، على العدل، على خدمة المجتمع، وكلها مبادئ يمكن أن تكون دافعاً قوياً للعمل السياسي الإيجابي. ولكن الحزب السياسي، حتى لو استلهم قيمه من الدين، يظل كياناً سياسياً يخضع لمعايير الكفاءة، النزاهة، والقدرة على إدارة شؤون الدولة والمجتمع. اختياره أو عدم اختياره يجب أن يتم بناءً على هذه المعايير السياسية، وليس بناءً على مدى تطابق هويته مع هويتي الدينية.
"الأمنية الكبرى "الدين في السياسة لا أهل الدين في السياسة:
هذا يقودنا إلى أمنية يعبر عنها الكثيرون: أن يصل الدين إلى أهل السياسة فيُهذّب أخلاقهم ويوجه بوصلتهم نحو الحق والعدل والمصلحة العامة، لا أن يصل أهل الدين إلى السياسة ليُقحموا المؤسسة الدينية في صراعاتها ويُحمّلوها وزر إخفاقاتها.
إذا كان الحزب يدعي أنه يمثل الدين نفسه، فهذا مغالطة خطيرة. الدين أسمى وأبقى من أي تنظيم بشري. وإذا كانوا مجرد سياسيين يستلهمون من الدين، فهم يخضعون لنفس معايير النقد والتقييم التي يخضع لها أي سياسي آخر. من حقي كمواطن أن أختار من يمثلني سياسياً بناءً على كفاءته ورؤيته وبرنامجه، لا على هويته الدينية التي أتشاركها معه. ومن حقي ألا أختارهم، دون أن يعني ذلك أي مساس بديني أو إيماني.
إن قرار عدم الانتماء إلى حزب "ديني" ليس نقصاً في الإيمان أو ابتعاداً عن تعاليم الإسلام. بل هو، على العكس، تأكيد على أصالة الإيمان كعلاقة فردية مع الله، ووعي بطبيعة العمل السياسي كاجتهاد بشري يخضع للخطأ والصواب، ولا يملك حق احتكار تمثيل الدين. إن فصل الهوية الإيمانية عن الانتماء التنظيمي السياسي هو خطوة نحو صحة المشهد السياسي وسلامة المشهد الديني على حد سواء، وتأكيد على أن إسلام الفرد هو ملكه الخاص، لا يمنحه إياه حزب ولا ينتزعه منه آخر. إيماني معي، لا يحتاج حزباً ليحميه أو يمثله.