عند الحديث عن الإصلاح يجدر التمييز بين الإصلاح المستحق لتصويب بعض مواقع الخلل في أداء السلطات والمؤسسات الرسمية أو الخاصة أيًا كانت طبيعة ذلك الخلل؛ وبين الإصلاح الذي يفرضه التقدم المستمر في أنماط ومناهج حياة الناس وممارساتهم؛ ذلك التقدم الناجم عن تطّور العلم والمعرفة، والذي أحدث نقلات جامحة في حياة الإنسان متمثلة في المرور من العصر الحجري إلى الثورة الزراعية ثم الثورة الصناعية ثم عصر التكنولوجيا ومنه إلى عالم الانترنت والذكاء الاصطناعي الذي نشهد تسارعا مذهلاً في تأثيره على كل أنماط وطرق حياتنا. وأّنى لقدراتنا المحدودة أن تواكب هذا التطور.
لا خلاف أننا في بلدنا، وفي هذه المرحلة، بالذات، بأمس الحاجة إلى كلا النوعين من الإصلاح. الأول لمعالجة مواقع خلل معروفة؛ والثاني، الذي أفضل أن أسمّيه التحديث، كونه يهدف إلى تحديث التشريعات وقواعد التعامل والخدمات التعليمية والصحية والإدارية والاجتماعية وكل ما يتعلق بحياة الناس وحاجاتهم بما يتماشى مع تطّور العلم والمعرفة. ولا يختلف حالنا عن حالة بقية بلدان العالم من حيث الحاجة المستمرة للإصلاح بنوعية الفرق الوحيد بين بلٍد وآخر هو ربما بمقدار الإصلاح المطلوب.
إذن الإصلاح لا يتحقق بجرعة واحدة، بل هو عملية مستمرة كل إدارة في الدنيا يعتريها الترهل، والتكلس، ويتسرب لها الفساد ويستبد بها العجز إذا ُتركت بلا رقابة وإذا لم تشمل قواعد العمل فيها ما يحول تلقائيًا دون وقوع – حتى لا أقول تفشي – مثل هذه الاختلالات.
أما ظاهرة العجز عن مواكبة التقدم والتطور العلمي فهي أيضًا معروفة في كثير من بلدان العالم وأسباب ذلك كثيرة، ولا تتسع لها مقالة كهذه ولكنني أكتفي بأن أذكر أن برامج ومشاريع التحديث تواجه في حالات كثيرة بمقاومة شرسة من أرباب الأساليب وأنماط العمل التقليدية، كون التحديث، من وجهة نظرهم، يحرك المياه الآسنة ويهدد ما اعتادوا عليه دون إدراٍك منهم أن التقدم العلمي والتقني يلغي أنماطًا قديمة بالفعل، ولكنه يأتي بأفضل منها لمن بادر باغتنام الفرص الجديدة دون هدر الجهد في محاربتها.
وكما تواجه التحديات بالمقاومة، يواجه الإصلاح – إصلاح الخلل – بالمقاومة الشرسة أيضًا، من قبل المجموعات التي تترعرع في ظل الترهل والفساد وسوء الأداء فالإصلاح عندئٍذ يهدد منافع تلك الفئات غير المشروعة والتي تنخر في صميم المجتمع والوطن.
الظواهر المشار إليها هي ظواهر عامة ولكننا في هذا الوطن العزيز لسنا استثناًء ولا مواقع الخلل في إداراتنا، ولا مواقع التخلف عن مواكبة العلم في مؤسساتنا استثناًء علينا أن نواجه المشكلة إذن بمسؤولية وأمانة ونزاهة وشجاعة وإرادة حقيقية من أجل مصلحة البلد، وشعب هذا الوطن الطيب
للإنصاف، وليس لتبرير المزيد من التقاعس، لقد حقق الأردن إنجازات كبيرة وسط ظروف بالغة الصعوبة، وبإمكانات محدودة جدًا، وتحديات كبيرة ومتواصلة كل ذلك معروف ولست بحاجة إلى مزيد من التوضيح ولكن الطريق – طريق الإصالح ما يزال أمامنا طويلاً وشاقًا لا مجال للتباطؤ والتلكؤ والمساومة على مصير الوطن.
وهل لنا من قدوة أحسن وأنبل من جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه االله الذي يقود مسيرة الإصلاح ويحث الحكومات المتعاقبة على القيام بها دون هوادة.
لسنا بحاجة للمزيد من التشخيص وتحديد المشكلة، فهي معروفة المطلوب وضع خطة محكمة ومباشرة سريعة في التنفيذ.
ولكن ولأن المشكلة بدأت بتآكل الثقة بين المواطن والحكومات– ولأن انعدام ثقة المواطن بالحكومات المتعاقبة كّرس التطاول على القانون، فقد استشرى الفساد بكافة أشكاله – الفساد المالي والإداري والسلوكي، وتشجيع الناس على التعّدي على المال العام وعدم الالتزام بتعليمات السلطات المختصة وعدم تسديد الرسوم والضرائب وعدم الوفاء بالالتزامات المالية – حتى الخاصة منها أحيانًا – وعدم دفع مخالفات المرور مع تراكم تلك المخالفات والانتهاكات التي هي أحد أهم أسباب أزمات السير الخانقة وتأثيراتها المضّرة على كل مرافق الحياة في البلد.
إذن يجب أن تكون البداية بفرض هيبة القانون دون هوادة ودون استثناءات ودون اعفاءات أن لا تكون لدينا قوانين تنظم حياة الناس أفضل بكثير من وجود قوانين لا تطبق لأن التعّود على عدم احترام القانون من قبل المواطنين يفاقم انهيار مؤسسات الدولة وهيبتها.
أنا لا أدعو إلى بناء عالقة بين المواطن والدولة مبنية على الخوف، بل عالقة مبنية على احترام المواطن لأجهزة الدولة ورموزها – احترام مؤسس على الثقة بتلك الأجهزة، الثقة بكفاءتها ونزاهتها وحرصها على خدمة المواطن وتلبية حاجاته ورعايته ومخاطبته باحترام وصدق وشفافية.
هذه هي الخطوة الأولى وهي الأساس هي فرض هيبة القانون، وهي عندما تتحقق تفكك الكثير من عقد الإدارة التي تراكمت على مدى الزمن وهي الكفيلة بتسهيل حياة الناس، وحرصهم على التعاون الطوعي مع السلطات الرسمية، التعاون المبني على الثقة والاحترام وليس الخوف من العقاب والملاحقة.
هذه الخطوة إن تحققت فهي الكفيلة بتحفيز الناس على احترام قواعد المرور لا انتهاكها تعبيرا عن الغضب والقهر من سلوك السلطة، وهي الكفيلة بتسديد الالتزامات المالية، وبالتالي دعم واردات الخزينة ودعم قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأفضل.
هذه الخطوة كفيلة بتخفيف الأعباء على أجهزتنا الأمنية المثقلة بالمهمات الصعبة فالانضباط العام يؤدي إلى حياة أكثر رتابة وأمنا وراحة واستقرارا للمواطن وللمسؤول على حد سواء.
ثمة نقطة أخرى أرى ضرورة التأكيد عليها وهي أن عملية الإصلاح لا تتم بقرارات، ولا بتنفيذ خطط، فقط من قبل السلطات الرسمية، إذا لم يقابل ذلك قناعة وقبول وتعاون من قبل المواطنين وهنا أجدني بحاجة للتأكيد مجددا أن ضمان تعاون المواطن لا يتحقق إلا عندما تتوفر لديه القناعة بنزاهة وكفاءة وصدق الأجهزة الرسمية المسؤولة عن حياته.
بعد ذلك تصبح عملية الإصلاح أسهل تحقيقا ويصبح تحديث الأنظمة والخدمات والتشريعات وأنماط التعامل وأساليب الإدارة الحديثة أكثر يسرا.
الإصلاح كل لا يتجزأ، عناصره مترابطة ومتداخلة فالسياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي يستند لذات الأسس ولا أظن أنه من السهل فصل أي من بنود الإصلاح هذه عن الآخر ولكن إصلاح التعليم وتحديثه بما يواكب روح العصر والتقدم هو الأساس لقد كتبت وناقشت موضوع التعليم بأكثر من وسيلة وسأعود إليه كلما دعت الحاجة.