2024-11-26 - الثلاثاء
00:00:00

آراء و مقالات

من وحي المئوية (15) .. الأفاريون في الأردن

{clean_title}
د.جواد العناني
صوت عمان :  

كنت أخلط دائماً بين شخصيتين تاريخيتين من القفقاس وهما «حاجي مراد» و» الشيخ شامل». وكم من مرة نُبِّهت من زملائي وأصدقائي أن الأول » حاجي مراد» هو الشيشاني الذي عاش في القرن التاسع عشر، ودخل في تحالف مع الداغستان لمحاربة الروس الذين كانوا يسعون لتوسيع امبراطوريتهم على حساب المسلمين. ولكنه، ويقال لأسباب شخصية، عقد حلفاً مع الروس. وقد ألهبت شخصيته خيال الروائي العظيم » ليو تولستوي»، والذي كتب عنه رواية » حاجي مُرات». وهي نوفيلا، أو رواية قصيرة نشرت بشكل غير كامل عام 1912 بعد وفاة «تولستوي، وأعيد نشرها كاملة عام 1917. 

وبحسب المصادر الروسية، وانطلاقاً من تعلق تولستوي بشخصية » الحاجي مراد»، فقد رُسِمت صورة لهذا البطل تمثل صراع الانسان بين مفاهيم الدين والقومية، الحرب التقليدية بين المسلمين والمسيحيين في تلك البقعة من العالم، والتناقض بين الفارس الحربي المغوار وضعف الانسان عندما يهوى إمرأة ويقع حتى » شوشته» -كما يقولون في غرامها- .

 أما الشيخ شامل فهو شيخ وإمام داغستاني. وثالث حكام » الدولة الأمامية من الفترة(1834-1859 (في روسيا. وقد قاد المعارك الضارية ضد الروس، حتى ألقي القبض عليه. وتوفي في المدينة المنورة بالحجاز عام 1871 .وقد كان صوفي النزعة على الطريقة النقشبندية. 

والحقيقة أن الرجلين وإن تزامنا إلى حد ما ضمن مفهوم الدولة الأمامية زماناً ومكاناً، إلا أن لكل منهما أسلوباً خاصاً به. حاجي مراد كان بطلاً مندفعاً، وجريئاً لأنه شيشاني أقرب إلى طبع البداوة في رومانسيتها وشاعريتها، أما الشيخ شامل فكان إماماً وعاش مثل أهله الداغستان أقرب إلى الفلاحة، وبخاصة زراعة القمح. ولذلك كان أكثر حرصاً، وإن انتهى به المطاف خاسراً لمعاركه ضد الروس.

 وقد قرأت عدداً من الكتب عن الشركس والشيشان والداغستان والذين يسمون شعب ال (AVAR ،(أو» أفاريون». وهم جبليون وفرسان، وإن تنوعت اعراقهم بين الشركس والشيشان، والداغستان. ونتيجة للحروب الطويلة التي خاضوها ضد الروس في القرن الأخير من الدولة العثمانية، فقد تحملوا عبئ حربهم لمنع الروس من الهيمنة عليهم والاستيلاء على أراضيهم. 

وبسبب حماستهم الدينية، فقد شُردوا على يد آخر قَيْصَريْن (نيكولاس الأول ونيكولاس الثاني) وبدأوا في الهجرة من بلادهم قاصدين تركيا وبلاد الشام والتي كانت كلها تحت كنف الامبراطوية العثمانية. وبعضهم استقر في تركيا، ومن ثم انتقلوا إلى سوريا، وهضبة الجولان، ومنطقة الجليل في شمال فلسطين. وفي عام 1877)والبعض يقول عام 1876 ،(وصلت أول دفعة شركسية إلى شرق الأردن، وعمّان على وجه التحديد. واستهواهم من الجغرافيا ما اعتقدوا أنه يتشابه مع بلاد القفقاس الجميله. فأختار الشركس تحديداً المناطق الجميلة قرب الماء أو بسبب أن المواقع تتمتع بفصل شتاء ماطر يساعدهم على زراعة القمح. 

وبعد موت حاجي مراد والشيخ شامل نشأت قيادات محلية شركسية في سوشي، وما حولها وبرز منهم عائلات مقاتلة من آل شُقُم (أو شيقيم) ونغوي، وشردم، وميرزا، واسحاقات وغيرهم. ولكن هؤلاء لم يجدوا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من يسعفهم فقد كانت الامبراطورية العثمانية على وشك الانهيار. وبالمقابل، فإن الشركس انقسموا إلى تجمعات كبيرة ومتفاوتة الحجم مثل الشابسوغ والقبرطاي. ويخبرني احد مراجعي الأساسية في هذا المجال. وهو معالي السيد نبيه شقم، القارئ النهم والواسع الثقافة، ان التجمعات الشركسية والشيشانية والداغستانية قد ضمت اذربيجان أحياناً، وأبخازيا.

 ومع أن البعض -حسب مصادر السيد نبيه شقم- يقول أن عائلة أباظه هم من أبخازيا، إلا أنها في الواقع عائلة شركسية سواء أباظه في الأردن، أو سوريا، أو الأكثر شهرة في مصر والذين برع منهم الشعراء(عزيز اباظة)، والكاتب(فكري أباظة)، أو  الممثلون (رشدي أباظة وحاتم أباظة). وغيرهم. الشركس الذين وصلوا شرق الأردن -كما ذكر أعلاه-اهتموا بفكرة زراعة الحبوب. وما زلت أذكر في أوائل الخمسينات من العقد الماضي، أنني اعتدت على رؤية العربات التي تجرها الثيران، وكبار الشركس الذين يلبسون طاقية «كَلْبَك» المصنوعة من الفرو، والسيدات الشركسيات يتحدثن بالشركسية. ولأنني من ابناء عَمان، ومن الذين درسوا في الكلية العلمية الإسلامية، فقد خالطت الشركس كثيراً. ولعل أول داغستاني عرفته كان السيد تيمور الداغستاني، والذي يعود في نسبه إلى الشيخ شامل و أهله من كبار قادة الجيش الذين عملوا لصيقاً بدءاً من الشريف الحسين بن علي،ثم ذهب أهله الي العراق ليعملوا في معية الملك فيصل الأول.

 أما تيمور فهو من مواليد عمان ومثَّلَ الأردن سفيراً في اسبانيا والمملكة المتحدة، وصاهر العائلة الهاشمية بزواجه من سمو الأميرة بسمة بنت طلال. والثاني كان الدكتور فخرالدين الداغستاني، الذي رئس الجمعية العلمية الملكية قبلي مباشرة، واستمر مستشاراً فيها. أما الشيشان، فقد تعرفت عليهم في صويلح والزرقاء وفي الازرق. وكان أول من عملت معه وزيراً من الشيشان هو اللواء محمد البشير في حكومة الأستاذ أحمد عبيدات (1994- 1995 (وتعرفت إلى عدد من آل بينو مثل الدكتور مراد بينو ومنهم أيضاً الباشا سميح بينو الذي خدم نائباً لمدير المخابرات العامة ثم رئيساً لهيئة مكافحة الفساد.

وتعرفت أيضاً إلى عدد منهم في الحكومة الأولى للدكتور عبد السلام المجالي 1993- 1994.وتعرفت على عدد من آل ارسلان مثل اللواء أحمد ارسلان في الجيش الأردني. وعرفت كذلك منهم المرحوم قاسم بولاد الذي عمل لفترة طويلة رئيساً لبلدية الزرقاء وإلى ابنه نارت النائب في البرلمان الأردني. وجمعني الحظ بالدكتور محمود الشيشاني الذي أهداني كتاباً مترجماً عن الألمانية عن تاريخ الشيشان. وقد وجدته مفيداً جداً. ولقد خدم الشيشان في الجيش العربي والمخابرات والأمن العام، واشتهروا بحسن ادائهم. ومن سوء الطالع أن المجال لا يتسع هنا للحديث بتوسع عنهم.

 أما بالنسبة للشركس، فمن منا ينسى حراس القصور الملكية ببدلاتهم السوداء، وأحذيتهم السوداء الطويلة(البوتس) الذي كانوا يرتدونه مع الزي التقليدي. ويذكرونك في سلوكهم بالحراس على أبواب قصر بكنغهام الانجليزي، أو بالحرس السويسري أمام مداخل دولة الفاتيكان في روما. وهنالك أيضاً صور للشركس لا تنسى، وكذلك الشيشان والداغستان، وهم يرقصون رقصاتهم الرائعة. 

ولما كنت شاباً في الثانوية أُغرمت بجارة شركسية لنا في جبل عمان حتى أدركت أنها مخطوبة لأحد أبناء زعماء لبنان الطائفيين، وتحمل نفس الاسم الأخير الذي يحمله هو، وإن لم يكونا أقارب. وكم أشتهيت أيضاً أن أحضر » فنطزية» شركسية. وحققت تلك الأمنية في منتصف الستينات وقد كنت طالباً في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ودعاني الصديق حينئذ زميلي سمير حسين خواجة، والذي رأَسَ أبوه بلدية وادي السير لسنوات إلى الفنطزية شريطة أن أبقى ساكناً لا أرقص. ولما بدأ الرقص يصل إلى مستويات حماسية مثل موج البحر قبل أن ينكسر ويعود لمستواه هجت ونزلت أرقص. 


وشعرت أن بعض الأمواس كانت بانتظاري. فعدت إلى مكاني. لقد واجه الشركس في بداية وصولهم إلى عمان مشكلات. وأول ما نزلوا حطوا الرجال في منطقة الشميساني في أسفل جبل الجوفة، ثم حسب ما أخبرني به الراحل وصفي ميرزا، أن الآبدة سكنوا منطقة رأس العين. ولما كثروا انتقلوا إلى وادي السير وصويلح وناعور. وبدأوا بزراعة القمح. وفي سنوات القحط، تعرضت منتجاتهم للسلب من قبل الجيران. واضطر الشركس لحمل السلاح والدفاع عن رزقهم. وقد انقسموا إلى قسمين: قسم فوجئ بالعرب حملة الرسالة الاسلامية وبتصرفات البعض منهم. 

فالشركس والشيشان والداغستان أتوا طالبين اللجوء بعدما فشلوا في تحقيق الدولة الإمامية في بلدهم الإصلي، وقد تعرضوا للظلم لأنهم مسلمون. ولذلك نأى البعض بنفسه عن الجيرة العربية في بيئة خاصة به تجسدت لاحقاً بانشاء نادي الجيل الذي اقتصرت العضوية فيه على أبناء الأفاريين (أو الشركس والشيشان والداغستان). وبالمقابل هنالك من رأى في العرب، أناساً محترمين يحتذى بهم، وتعاملوا مع جيرانهم الوافدين من روسيا بحضارة وأصالة. ولذلك قبل هؤلاء بالعرب انسباء وأصهارا. 

وبالطبع فإن بياض لون الشركس، ونعومة مظهر البنات ورشاقتهن هي التي جذبت كثيراً من شباب الأردن لطلب أيديهن في الزواج، كما حصل لما وصلت العائلات السورية إلى اربد وجرش وعمان ومعان، وحصل الاختلاط. وبرز الشركس ليسوا كتجار، وإنما كرجال أقوياء متمرسين في فنون القتال. وكانوا دائماً أصحاب كلمة شرف، ولهم ميثاق خلقي يتنظم صغارهم حيال كبارهم، ونساءهم حيال رجالهم، وكم من أصبع شاب شركسي احترق لما دخل أبوه عليه فجأة فاضطر أن يضع يديه خلف ظهره حتى تحترق أصابعه طالما أن والده بقي يحادثه، وآخرين احترقت جيوبهم وجلودهم لما دسوا السيجارة المشتعله في جيوبهم. 

و ابدع كثير من الشركس في الرياضة وكرة القدم. وقد أنشأو النادي الأهلي الذي كان ينافس الفيصلي والجزيرة والشباب. ونذكر لاعبين كباراً أمثال شحاده موسى ومنير عمر وينال حكمت وحسني حسن والد مدير المخابرات الحالي وغيرهم. ونتذكر المدربين منهم وبخاصة الأخوين نظمي ومظهر السعيد، واللذين حافظا على لياقتهما رغم انهما كانا وهما يدربان يعانيان من زيادة واضحة في الوزن. ومنهم من أبدع في كرة السلة مثل المرحوم سعيد شقم. 

وقد تميزوا بالجدية والصدقية في التعامل. وقد ربطتني شخصياً علاقات متينة مع كثيرين منهم طيلة ال (68 (عاماً الماضية من الكلية العلمية الإسلامية وحتى تزوج اثنان من أخوتي بفتاتين شركسيتين. ولقد استفاد الشركس من ملكيتهم للأرض. وبعضهم وصل إلى ثروة طائلة بسبب إرث الأرض. وقد تبين هذا بشكل واضح بعد ثورة النفط عام (1973 .(وتحديداً بعد حرب اكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام. هنالك مبدعون شركس مثل الطفلة إيمان بيشه مغنية الأوبرا والسيد وليد تحبسم صاحب أكبرشركة تكنولوجيا معلومات. وهنالك رياضيون ولاعبو جمباز. ولكن مع الأسف فإن الكثير منهم،وبخاصة فئة الشبان، صارو يهاجرون إلى خارج الاردن. ولقد عرفنا الكثير من الاسر(الأفارية) في الأردن، وكانو دائماً نعم الجيران، ونعم الشركاء، ونعم الأصهار والأنساب.

 وباختصار كانوا فعلاً اضافة نوعية للأردن