يحتل موضوع الشمول المالي أهمية كبيرة على مختلف المستويات العالمية والإقليمية والمحلية باعتباره مدخلاً لبناء الاستراتيجيات التنموية ولدوره في مكافحة الفقر والبطالة والارتقاء بمستوى الإنتاجية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
فقد أطلقت مجموعة العشرين قبل أكثر من عقد رابطة الشراكة العالمية من أجل الشمول المالي، وهناك مؤشر من البنك الدولي يقيس الشمول المالي من خلال كيفية وصول واستخدام البالغين للخدمات المالية في مختلف دول العالم، وعربياً فقد قام مجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية في عام 2016 باعتماد السابع والعشرين من شهر نيسان من كل عام كيوم عربي للشمول المالي وذلك بهدف رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية الشمول المالي ما يعزز من فرص نجاح الجهود والسياسات في هذا الإطار.
كما قام صندوق النقد العربي بالتعاون مع عدد من المؤسسات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بإطلاق المبادرة الإقليمية لتعزيز الشمول المالي في الدول العربية بهدف تمكين وتعزيز القدرات والإمكانيات لتذليل العقبات التي تعترض الارتقاء بمؤشر الشمول المالي في الدول العربية.
أما في الأردن فقد تم اعتماد الاستراتيجية الوطنية للاشتمال المالي للأعوام 2018- 2020، والتي تشمل التثقيف المالي، وحماية المستهلك المالي، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وخدمات التمويل الأصغر، والمدفوعات الرقمية، وذلك باعتبار أن الشمول المالي يتيح للأفراد وقطاع الأعمال الوصول إلى الخدمات والمنتجات المالية المختلفة بما فيها عمليات الدفع، التوفير، الائتمان، التحويل المالي، التأمين بطريقة موثوقة ومستدامة، وبشكل مناسب وملائم وبتكلفة معقولة بما يتوافق مع احتياجاتهم، ما يساعد في تحسين مستوى المعيشة لديهم.
الشمول المالي يعني تمكين مختلف فئات المجتمع بمن فيهم الأفراد وقطاعات الأعمال من الوصول إلى الخدمات المالية مثل الحسابات المصرفية وخدمات الدفع والتحويل والتأمين وغيرها من خلال القنوات الرسمية بشكل مناسب وبكلفة معقولة مع إيلاء أهمية خاصة للفئات المحرومة والمهمشة وبحيث تتقلص الحاجة إلى الأشكال غير الرسمية من صيغ التمويل التي لا تخضع عادة للرقابة.
ويحظى هذا الموضوع بأهمية كبيرة بالنسبة للجهاز المصرفي والصيرفة والسياسة النقدية بشكل عام، والنجاح في هذا الإطار يعتمد إلى حد كبير على نجاعة السياسات النقدية وما تتخذه من إجراءات وعلى تعاون مختلف الأطراف الأخرى في هذا الإطار، وإدماج مختلف الفئات في النظام المالي الرسمي، ويدخل في هذا الإطار تعزيز الوعي بالأمور المالية.
وفي الإطار الاقتصادي الكلي يساهم الشمول المالي في رفع نسب النمو الاقتصادي عبر تحفيز الاستثمارات وتمكين أكبر شريحة ممكنة من الوصول إلى مصادر التمويل، ما يعني المساهمة في توفير فرص عمل إضافية وتعزيز استدامة النمو، ولا شك بأن الاستثمار مرهون أيضاً بتوفر البيئة والأدوات اللازمة لذلك بما فيها التشريعات الملائمة التي تكفل إزالة العوائق البيروقراطية وتحسين الإدارة العامة ورفع مستوى أدائها، إضافة لذلك يعتبر الشمول المالي أداة للمساعدة في رقابة الحسابات المصرفية وتحويلات الأموال والحد من تمويل الأعمال غير المشروعة، وبشكل عام يمكن القول أن تعزيز الشمول المالي يساهم في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة ومواجهة تحديات البطالة.
أبرزت التطورات الراهنة وخاصة تلك المرتبطة بجائحة كورونا الأهمية الكبيرة لموضوع الشمول المالي وضرورة السير قدماً في هذا الاتجاه عبر تعزيز الخدمات المالية الرقمية وتوعية المستخدمين والعمل على استكمال البنى التحتية اللازمة لذلك.
فقد جاءت التوجيهات الملكية السامية بضرورة انتهاج سبيل الاعتماد على الذات والتعامل بجدية مع مختلف التحديات الاقتصادية، ويعتبر الشمول المالي أداة داعمة لفكرة الاعتماد على الذات وتمكين القطاعات الاقتصادية المختلفة من ضمان الاستدامة والقدرة على التأقلم مع المستجدات، وقد شهدنا الأثر الإيجابي لسياسات التحويلات المالية لدعم القطاعات والأفراد المتضررين وأثر ذلك على رفع نسبة الشمول المالي ولا بد من العمل لتعميق النجاحات التي تحققت والبناء عليها.
يتطلب الشمول المالي العمل بحرفية عالية للاستفادة من أحدث وأفضل الأساليب التكنولوجية واستخدام الأدوات المالية الحديثة مثل الدفع عن طريق الهاتف وتحصيل الفواتير الكترونياً، وهي بمجموعها تعمل على تحسين الخدمات وتسهيل الحصول عليها، وعندما يتوسع الشمول المالي تصبح كلفة الخدمات أقل على المواطن والمستثمر، ما يعني تعزيز قدرة المنتج الأردني على المنافسة باعتبار أن كلفة التمويل هي جزء من كلفة إنتاج السلع والخدمات.
ونحن اليوم نشهد نمواً متسارعاً في استخدام التقنيات الحديثة التي تفتح فرصاً إضافية لتعزيز كفاءة العمليات المالية والمصرفية، ما يعزز إمكانية الوصول لمصادر التمويل ويشجع ريادة الأعمال.
وتشير الإحصاءات إلى حدوث تغيرات جوهرية في أنظمة المدفوعات، فمثلاً المدفوعات النقدية بلغت نسبتها30 % في عام 2019 وانخفضت عام 2020 إلى 19 % فقط، أما المدفوعات من خلال المحافظ الإلكترونية والهواتف فقد ارتفعت من 22% عام 2019 إلى 30 % عام 2020، وكذلك ارتفعت المدفوعات عبر بطاقات الائتمان من 44 % الى 48 %، وهذه التغيرات التي حصلت خلال سنة واحدة تؤكد ضرورة إيلاء التكنولوجيا الحديثة ما تستحقه من اهتمام فنحن اليوم نعيش عصر التكنولوجيا المالية.
ولتحقيق الأهداف المتوخاة من الشمول المالي لا بد من الاهتمام بالتحديات المتعلقة بالفئات الفقيرة والمهمشة وخاصة عنصر الشباب والمرأة، ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة ونحن على أبواب الفرصة السكانية فالمكون الشبابي يقارب 70% من السكان وهؤلاء بحاجة لتوفير فرص عمل، وكثيراً ما يكون لدى الشباب العديد من الأفكار الخلاقة والمشاريع المجدية التي يقف التمويل عائقاً أمام تكريسها على أرض الواقع، لذلك فنحن معنيون بتحقيق الشمول المالي لتمكين الشباب من تنفيذ مشاريعهم وتحقيق طموحاتهم، ومن المنصف الإشارة إلى أن البنك المركزي قد وفر مصادر تمويل بكلف معقولة لهذه الغاية وكذلك لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
وتعد قدرة المشاريع الصغيرة والمتوسطة على الوصول لمصادر التمويل عاملاً حاسماً في تحقيق الأهداف التنموية والنهوض بالاقتصاد الوطني خاصة وانها تشكل الجزء الرئيسي من المشاريع في الأردن، كما أنها مصدر مهم لتوليد فرص العمل وزيادة نسب النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر والبطالة، وهناك أيضاً عوامل أخرى لا بد من توفرها مثل تنافسية القطاع المصرفي، وتقليص كلفة القطاع العام لكي يقلل من الاقتراض المحلي ولا ينافس قطاع الأعمال على المصادر المالية المتاحة وكذلك تعزيز الحوكمة الرشيدة وتوفير بيئة ملائمة للأعمال، مع الاستمرار في تحسين التشريعات والخطوط الائتمانية الملائمة.
هناك بعض التحديات التي تترافق مع العمل في سبيل تعميق الشمول المالي بما في ذلك الحفاظ على معايير النزاهة والشفافية وحماية المستهلكين خاصة وإن الكثير من المستهدفين بإجراءات الشمول المالي من الفئات الضعيفة والتي قد لا تمتلك المعرفة الكافية بما يترتب عليهم من واجبات وما لهم من حقوق، وهنا لا بد من الإشارة إلى الخطوة التي تم بموجبها إخضاع مؤسسات الاقراض الصغير ومتناهي الصغر لرقابة البنك المركزي مما يساهم في منع استغلال صغار المستفيدين وفرض شروط قاسية أو نسب فوائد مرتفعة عليهم، كما أن موضوع الاستقرار المالي يكتسب أهمية خاصة لدى الحديث عن الشمول المالي ويشكل ركيزة أساسية له، وبحيث تتضافر كل الجهود للوصول إلى الوضع الأفضل الذي يحقق المصالح المشتركة لمختلف الأطراف.
وقد حققت العديد من دول العالم نجاحات لافتة في مجال الشمول المالي فالدول الاسكندنافية مثل تزيد فيها نسبة الشمول المالي عن 99%، وتتجاوز هذه النسبة 90% في أغلب البلدان المتقدمة، ويقدر أن هذه النسبة وصلت إلى70% على مستوى العالم، وعلى المستوى المحلي فقد حققت المملكة تقدماً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، فمثلاً بلغت نسبة الشمول المالي في أول سبعة أشهر من عام 2020 حوالي 50% متجاوزة بذلك النسبة المستهدفة لاستراتيجية الشمول المالي التي وضعها البنك المركزي والهادفة إلى رفع هذه النسبة إلى 41.5% عام 2020 ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة قد وصلت هذا العام إلى أكثر من 55%، كما تم تقليص الفجوة الجندرية إلى 29% في حين كان المستهدف تقليصها من 53% إلى 35%، إلا أنه وبالرغم من التقدم الذي تحقق لا زال أمامنا الكثير لعمله لإيصال الخدمات المالية إلى سائر شرائح المجتمع، وهذا يتطلب أن تركز السياسة الوطنية للشمول المالي على استهداف عنصري الشباب والمرأة وقطاع الأعمال الصغيرة والقطاع غير المنظم.
لا شك بأن هناك الكثير مما يجب القيام به لكي نتمكن من جني الفوائد المتوخاة من الشمول المالي، فهو كأي عامل مالي أو اقتصادي لا يعمل في الفراغ وإنما ضمن البيئة التشريعية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وفي هذا السياق نحن بحاجة إلى مواكبة التطورات في البنى التحتية للتكنولوجيا الرقمية وتعزيز ذلك بتشريعات ملائمة تحفز الإبداع والابتكار وتساهم في نشر المعرفة والثقافة المالية بين أوسع فئات المجتمع، مع تطوير أدوات وخدمات مالية ملائمة لاحتياجات الفئات المستهدفة، وتعزيز الثقة عبر منظومة من الشفافية والإفصاح تشكل أساساً لحماية المستفيدين، مع مراعاة أن يتم كل ذلك في بيئة محفزة تجذب الاستثمار وتعزز تنافسية الاقتصاد الوطني وصولاً إلى تحقيق نمو مستدام يولد فرص عمل ويرفع من مستوى معيشة المواطنين.
وبالإمكان أيضاً التفكير بتقديم خدمات مصرفية بدون فروع بنكية، كوسيلة لتحسين فرص حصول الفقراء على الخدمات المالية، وزيادة الاهتمام بنشر الوعي المصرفي والتعريف بالمنتجات المالية، وتقديم النصح والإرشاد في الأمور المالية مثل إدارة الأموال والديون والادخار والآليات المتعلقة بالائتمان، كما يمكن أيضاً تشجيع الانتشار الجغرافي لمؤسسات الجهاز المصرفي لتسهيل إيصال الخدمات المالية إلى مختلف الفئات الاجتماعية.