في لحظة نادرة من الشفافية الساخرة، خرج مدير عام المؤسسة العامة للغذاء والدواء بتصريح فريد من نوعه، لا يُعرف إن كان يُبكي أم يُضحك، حين وجّه نصيحة وقائية إلى المواطنين مفادها: "إذا كنتم مُصرّين على شرب الكحول، فاختاروا المشروبات من المحلات المرخصة والمعروفة بمأمونيتها!”
هذا التصريح، الذي كان من المفترض أن يُشكّل جزءًا من حملة رقابية وقانونية صارمة ضد الكحول المغشوش، انقلب في لحظة إلى منشور توعوي أقرب لنشرة تسويقية، تُرشد السُكارى إلى "الاختيار الآمن”، تمامًا كما تُرشد أم ابنها لاختيار الحليب المبستر من الرف الصحيح.
فهل نحن أمام مؤسسة رقابية، أم أمام جهة تُوزّع "دليل المستهلك الواعي للخمور”؟ وهل أصبح دور "الغذاء والدواء” أن تتبنّى مبدأ "الضرر الأقل” بدلًا من منع الضرر من أساسه؟
التصريحات جاءت بعد سلسلة من حالات التسمم الخطيرة الناتجة عن تناول كحول مغشوش، بعضها أدى إلى وفيات وفقدان للبصر، ما أشعل الرأي العام وطرح تساؤلات موجعة حول فعالية الرقابة، و”حدود التدخل” التي لا يبدو أنها تتجاوز حد النصح.
الشارع الأردني، الذي لم يعتد أن يسمع من مؤسساته سوى بيانات نفي أو صمت طويل، فوجئ هذه المرة بخطاب جديد: اعترفنا بوجود الخطر… وتركنا لكم حسن الاختيار.
وإذا كان الشرّ يُضحك أحيانًا، فإن هذه "النصيحة الرسمية” لا تُضحك فقط، بل تُوجع، لأنها تعني ببساطة: نحن نعرف أن السوق مليء بالمغشوش… فلا تلومونا إذا لم تُحسنوا اختيار مشروبكم السام.
هل سنرى قريبًا ملصقًا على الزجاجات:
"تم اختيار هذا المنتج بعناية من قبل المؤسسة العامة للغذاء والدواء – شرب آمن بمأمونية عالية”؟
في زمن تتبادل فيه الأدوار، يصبح من الطبيعي أن تتحوّل الجهات الرقابية إلى "مستشارين للسكر الآمن”، وتُترك الرقابة لضمير السوق