من إبداعات الحكم الهاشمي في المملكة الأردنية الهاشمية هي قدرتهم على تقدير الأمور، وموازين القوى، واتخاذهم للقرار الصائب في الوقت الأصوب، وهم خبراء بحكم التجربة والبصيرة، في تقدير موازين القوى، والمتناقضة على ثبات الأردن واستقراره، ومنعة الحكم وديمومته، ومن ثم السير بثبات حتى يتحقق ما يصبون إليه، او حتى يزول الطارئ الخطير، ويستمر الاردن وحكمه في الطريق الصحيح.
لا يكفي الذكاء ولا الفطنة وحدهما لإنقاذ الأردن من كل ما مر به من مواقف صعبة، وتحديات كبرى، ومصاعب جمة، ولكن الحكمة هي زادهم المكمل، وقد يكون القائد ذكياً وفطنا فيدرك حساسية الموقف ودقته، ولكنه قد لا يمتلك الحكمة والدربة للخروج منه وكلا الوطن والحكمة شرط ضروري وكاف للانتصار والسمو فوق مصائد الحياة، حسب تعبير وليم شكسبير.
منذ اليوم الأول الذي وصل فيه الامير عبدالله بن الحسين عام 1920 إلى شرق الاردن وهو يعلم التناقضات التي سيواجهها، وعلى المستوى الإقليمي هنالك قضايا عالقة مع الاستعمار الفرنسي الذي استحكم في سوريا حيث كان الحكم الهاشمي حتى طبقت اتفاقات سايكس/ بيكو، وانتقل الحكم الفيصلي إلى العراق، وهنالك البريطانيون الذين قدموا وعد بلفور لليهود لتكون فلسطين وطنا لهم مع اعتراف اعتذاري بحقوق السكان الآخرين دون تحديد هويتهم وهنالك شرق الاردن الذي كان مشمولاً مع فلسطين في انتداب واحد.
لم يتجاوز عمر الراحل المؤسس آنذاك الثامنة والثلاثين من عمره، ولكنه استطاع ان يقيس كل التحديات التي امامه، ويبحث له عن مسار أمثل يحصل في نهايته على أقصى ما يستطيع في ظل القيود والمحددات التي يواجهها ولكنه كان يناور ويفاوض بذكاء من يبحث عن تعظيم المردود، ومن هنا نجح في فصل الانتداب الاردني عن الانتداب الفلسطيني وابقى جذوة المقاومة للاستعمار الفرنسي دون ان يدخل في حرب تؤلب تمكين الانجليز وحلفائهم الفرنسيين، وأصبح أميراً على امارة الشرق العربي معتبراً شرق الاردن مشروعه لتحقيق حلم النهضة والثورة العربية الكبرى واقنع من اعتبروه خصماً سهلاً في الجوار انه قادر على الحفاظ على امارته، ومهد لخلق دولة متكاملة متجانسه، ومحافظاً على علاقاته مع الجوار رغم ما يقوله الشاعر «إن تحت الرماد داء دوياً"
وقس على ذلك عام 1948، وكيف استطاع هو وأشاوس الجيش العربي ان يحافظوا على القدس الشريف ومن منا ينسى ما فعله الصناديد في معركة باب الواد التي وقعت بعد (15) ايار عام 1948 ودامت (33) يوماً. وبعدما حاز على القدس، تمكن رغم مقاومة كل الدول العربية ورفضها من ان ينجح في عقد مؤثرات لضمان وحدة الضفتين وقد كان.
وورث جلالة الراحل الملك الحسين عن ابيه وجده وضعاً اقليمياً...، ووضعاً احسن استقراراً وثباتاً في الداخل خاصة بعد صدور دستور عام 1952 وحل مشكلة الخلاف على ولاية العهد، والتي كتب فيها الكثير خاصة ما ذكره جلالة الملك في كتابه (uneasy lies the herd) وما بينه روبرت ساتلوف من تطورات هامة حصلت في الداخل الاردني منذ استشهاد الملك المؤسس عبدالله الاول على بوابة الاقصى وحتى تولي جلالة الحسين لسلطاته الدستورية وتتويجه ملكاً على البلاد عام 1953.
ولقد واجه الحسين محاولات عديدة للانقلاب أسوة بالموضة السائدة آنذاك في الوطن العربي بدءاً من انقلاب حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وانور الشيشكلي في سوريا، وانقلاب عام 1952 في مصر، وانقلاب العراق عام 1958، واحداث السودان عام 1955 وغيرها.
ولما قامت الجمهورية العربية المتحدة أسس العاهلان العراقي والاردني الهاشميان الاتحاد العربي الهاشمي والذي لم يكتب له العمر حين وقع انقلاب تموز عام 1958.
ولما بدأت الامور تجنح للهدوء في عقد الستينات من القرن الماضي ووضع الاردن برنامج السنوات السبع للتنمية واجهتنا احداث دامية في حرب عام (1967) والتي دخلها الراحل العظيم الحسين رغم علمه ان العرب لم يكونوا جاهزين لها عسكرياً، وهزم العرب شر هزيمة، وسقطت الضفة الغربية بأيدي الاحتلال الاسرائيلي ولم يكتف الاسرائيليون بذلك حتى شنوا علينا معركة الكرامة يوم 21/ آذار/1968 وكان النصر المؤيد الذي حفظ الاردن من ويلات الاحتلال والتمادي.
وجاءت ثورة اسعار النفط عام 1973 وحقق العرب بقيادة مصر انجازاً واضحاً بطرد القوات الاسرائيلية من منطقة قناة السويس، واستعادت سوريا القنيطرة في هضبة الجولان، اما الاردن الذي شارك بقوات داخل سوريا، فقد حافظ على ارضه وحدوده.
ثم كانت قرارات العرب بتلميع منظمة التحرير وتحميلها مسؤولية التمثيل الفلسطيني والتصدي لبناء دولة فلسطينية، وكانت قبل ذلك احداث عام 1970، ونجح الاردن في الحفاظ على كيانه الوطني والسياسي سيداً على ارضه وبعد ذلك كله جاءت هزة النفط، ودخل الاردن مستثمراً للظرف فبنى اقتصاده وطوره واكمل بناه التحتية، وانتقل الى اقتصاد انتاجي خدمي.
ثم جاءت حرب العراق على ايران، وسخر الاردن ارضه وموارده وامكانته لمساندة العراق، ولما احتل العراق دولة الكويت سعى الراحل الحسين بكل ما اوتي من قوة رغم العنت الاميركي والتجافي العربي لكي يقنع العراق بالانسحاب قبل حرب عام 1991 ولكن وقع المحظور.
وواجه الاردن ازمة اقتصادية خانقة عام 1989 وحرب الخليج عام 1991 الى ان جاءت مبادرة واشنطن السلمية ودخل الاردن فيها وتمكن من اعادة احياء اقتصاده، وعالج ازمة المديونية واعاد الحميمية الى علاقاته العربية، واستمر الوضع يسير نحو الاستقرار حتى مرض الملك الراحل، وتولى جلالة الملك عبدالله الدستورية لصلاحياته كملك رابع للبلاد قابلا التحدي بكل عزيمة.
وبعد الهزة الاقتصادية عام 2008 استطاع الاردن ان يتكيف معها رغم فداحة الخسائر التي نجمت عنها، وتصدى الملك لمطالب الشعب بمزيد من الاصلاح والحوكمة والشفافية ومحاربة الفساد ولكن جاء الربيع العربي بكل تبعاته واحداثه ووقع الارهاب الماثل في داعش ولجأ للاردن ملايين اللاجئين، وانقطعت خطوط الاردن المغذية لدخله مع انهيار الجوار العربي.
الملك عبدالله كان ينظر الى الحلقات الثلاث والتي لا يمكن تجاهلها على الاطلاق الحلقة الاولى هي الداخل الاردن وما يعتمل فيه من مواقف وتداخلات واجتهادات ومطالبات ويسعى بوضعه للاوراق النقاشية السبع لكي يبني موقفاً متجانساً من قضايا الاصلاح الاساسية وما يزال يسعى ويحاول في حدود الحفاظ على وحدة الاردن وأهله، والدفع بالاصلاح الى حد لا يسمح بالفوضى وضياع هيبة القانون، والتسامح وغض النظر على الاساءة الى الحد الذي لا يسيء احد فهم هذا التسامح وخلطه بالضعف ومع كثرة الشكاوى من الوضع الاقتصادي، وصعوبة التوفيق بين موارد الدولة والطلب على الانفاق، والسعي لبناء ثروة تخدم الاجيال القادمة، فان الملك صار يرى ان الوضع الداخلي يتطلب ادارة حساسة دقيقة لتسمح للناس بالمساهمة في وضع قوانين انتخاب وبناء مؤسسات حزبية فاعلة حتى يكون التمثيل للشعب صحيحاً عاكساً لمواقفهم المتناقضة في كثير من الاحيان.
اما على المستوى القومي، فهو يسعى لبناء نظام اقتصادي تكاملي مع الشقيقتين مصر والعراق، ويسعى لفتح الابواب على سوريا حتى تتمكن من الانطلاق والنمو، لما في ذلك كله من مصلحة للاردن. ولكن همه الاساس يبقى القضية الفلسطينية لان حلها يعنيى ترسيم خريطة الجغرافيا والديمغرافيا في الاردن بمنتهى الوضوح. وهذا يتطلب بناء كيان فلسطيني على الارض الفلسطينية المحتلة، وترتيب العلاقة مع فلسطين في ضوء ذلك.
اما على المستوى الدولي، فالاردن يدرك ان علاقاته الدولية خاصة مع الولايات المتحدة هي في غاية الأهمية لانها هي الاقدر على اقناع اسرائيل بالجلوس الى طاولة المفاوضات سعياً لانهاء الاحتلال وفتح مجالات اقتصادية هادفة لخدمة افراد الشعب ورفاههم وحياتهم الكريمة، ولكن العلاقة مع الولايات المتحدة لا تعني اننا ننسى دور اوروبا واليابان وروسيا والصين وما لكل هؤلاء من تأثير كبير على صيرورة قضايانا الكبرى محلياً وأقليمياً.
هذه الأفكار والمعلومات والطموحات التي حملها جلالة الملك الى واشنطن واستطاع رغم ما فيها من حساسية وصعوبة في التوفيق وسط تناقض المصالح والظروف ان ينجح في تحقيقها, وبسبب وجودي في الولايات المتحدة اثناء الزيارة الملكية بصحبة جلالة الملكة رانيا وسمو ولي العهد الامير الحسين بن عبدالله، فقد ادركت من خلال لقاءاتي مع مسؤولين ودارسين واعلاميين مدى الابداع الذي سجله الملك عبدالله في هذه الزيارة من تلك المباحثات.
فعلى المستوى المحلي نجح الملك في زيارة المساعدات للاردن وتعزيز اهتمام الادارة الاميركية بضرورة دعم الاردن مالياً واستثمارياً وتجاريا. وحاز على دعم الادارة لكي تقوم اسرائيل بفتح اسواق الضفة الغربية وزيادة التجارة اليها بمقدار يقارب (450) مليون دولار سنويا. وكذلك زيادة ضخ المياه في هذا الموسم الجائر بمقدار خمسين مليون متر مكعب.
والأهم من ذلك هو تأكيده للادارة الاميركية وكما ورد في بيان البيت الابيض عن الزيارة ان الملك طالب الادارة الاميركية بدعم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وتمكينه من تحقيق هدفه للوصول الى عراق مستقل في قراره بعيد عن تأثير الجيران. وكذلك وضح جلالته ضرورة التخفيف عن سوريا من اجل السماح بعودة الحياة اليها، وبدء عملية اعادة البناء، وهنالك استشارات على قرب حدوث تطورين هامين على هذين الملفين.
اما القضية الفلسطينية فمن الواضح ان جلالته قد طالب بدعم الرئيس محمود عباس، ولكن الادارة الاميركية– كما فهمتُ من مقابلاتي مع المسؤولين الاميركيين – نتوقع من الرئيس عباس - حسب قولهم - بالعمل على تحسين الشفافية والحوكمة والادارة المالية، وفي نفس الوقت أكدوا لي ان الادارة سوف تضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت كي يقلل من المضايقات للفلسطينيين في تحركهم، والسماح بحرية العبادة، ومنع استمرار اعتداءات المتطرفين على المسجد الاقصى، ومضايقة المصلين، وايقاف عمليات الهدم في الشيخ جراح ومناطق القدس وغيرهما، والاهم السماح لأهل غزة بالدخول والخروح وتسهيل اجراء وصول الادوية والاغذية ومواد البناء اليهم، وتوسيع حدودهم البحرية للصيد والتصدير، وتأمين حاجاتهم من الوقود وغيرها.
وبسبب زيارة الملك اكتسبت القضية الفلسطينية اولوية واهمية، فهي ليست مغفلة من جدول الاعمال او انها تقبع في نهايات ذلك الجدول، بل هنالك تحضيرات يجب ان توضع وتتخذ حتى تتيح الفرصة لكل من السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية البدء بمفاوضات جادة.
وهذا يتطلب اجراء انتخابات تشريعية فلسطينية وتثبيت الحكومة الاسرائيلية الحالية عن طريق تمرير موازنتها في الكنيست ما يمكنها من ضمان الاستمرار لسنتين على الأقل، وعندها تكون ادارة الرئيس بايدن قد تجاوزت الانتخابات التشريعية في منتصف فترة الرئيس بايدن (او في شهر تشرين الثاني لعام 2022)، وفي هذه الاثناء تجري الاستعدادات داخل الادارات الاميركية ذات الشأن لاعداد الخرائط والشروط والمقترحات والخطوات المطلوبة قبل التفاوض، واثنائه وما بعد توقيع الاتفاق النهائي المتفق سلفاً على انه يجب ان يفضي الى دولة فلسطينية مستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وبموجب المبادرة العربية عام 2002.
أما فيما يتعلق بالوضع الدولي، فقد شرح الملك عبدالله رأيه بوضوح فيما يتعلق بالصين ودورها، وان العالم العربي والاسلامي هو الموقع الاستراتيجي الاساسي لكلا القوتين، وأن من الصعب الانفكاك عن العلاقات مع القوتين، وكذلك، فإن الموقف الروسي ضروري من اجل خدمة مشروع التهدئة في سوريا والعراق، والوصول الى اتفاق مع ايران.
هذه النتائج المتميزة التي وصل اليها جلالة الملك ستنعكس داخلياً على الارض في امور متعددة، اولها ورغم الاحتجاجات، فإن انتقال الجنود الاميركيين الى الاردن يعزز من موقعه الاستراتيجي، ويجعله في منأى عن الايدي القريبة والغريبة التي سعت الى زعزعة أمنه، ولنتذكر كوريا الجنوبية او تايوان، وسنغافورة، وقطر.
والاردن وقيادته يحظيان باحترام وتقدير كبيرين، ومع هذا، يجب ان نعترف ان موقفنا الراهن يجعل الوجود الاميركي في الاردن ذا فوائد، ولكن حسن النوايا في السياسة ليس منصوحاً به بشكل مفتوح او دائم.
وكذلك، فإن وصاية الاردن على الاماكن المقدسة قد حسمت لمدة اربع سنوات على الاقل، وإن تجاوزتها فلن يستطيع احد المساس بها.
واخيراً، فإن الاردن قد عزز الدستور وتطبيقاته فيما يتعلق بولاية العهد، ولا مجال الان لتغيير ذلك إذا نجح الاردن داخلياً في عملية الاصلاح، وتوافق الناس على رؤية موحدة، فإن الاردن سيصبح شريكاً ثابتاً مستقرأ، يمكن الركون الى ثباته ومنعته في بناء اقتصاد متين، ونظام توزيع عادل، وأن يكون قدوة لدول عربية اخرى.
زيارة الملك ليست مجرد موقف ذكي وفطن، بل هو نتائج عقود من الخبرة المعتقة العميقة، التي تضع مئة عام من مواجهة التحديات والنجاح في تجاوزها وتحويلها الى فرص، هذا ما عكسته الزيارة الملكية من حكمة وفطنة وذكاء.