الَّدين العام هو ما تقترضه الحكومات حول العالم، داخليًا أو خارجيًا، لتغطية نفقات الحكومة والمؤَّسسات التابعة لها. بيد أَّن هناك حقائق ثالث حول الَّدين العام، تحدد مدى خطورة أو أهمية ذلك الَّدين لاقتصاد الدولة المعنية.
الحقيقة الأولى، أَّن خطورة الَّدين العام تكمن في السبب الذي أنشأ ذلك الَّدين، فإن كان الَّدين العام قد نشأ لتغطية قصور الإيرادات المحلية عن تغطية النفقات المحلية الجارية، أي عن عدم القدرة على تغطية نفقات تسيير أمور الدولة اليومية، فهذا ُيعُّد من أخطر أنواع الَّدين، مهما كان حجمه أو نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، ذلك أَّن اللجوء
إلى الَّدين هنا هو لجوء إلى الغير لتغطية سوء إدارة المال العام في الدولة، ما لم يكن ذلك ناشئ، بشكل مؤقت، عن أوضاع اقتصادية طارئة وآنية فقط، أّما إن نشأ الَّدين العام عن الحاجة إلى تمويل مشاريع استثمارية عامة، تؤدي إلى توليد الوظائف، وإلى تحريك عجلة الاقتصاد، وتنمية المناطق الجغرافية، فهو َدين حميد تستطيع عوائده وإيراداته العامة أن تسدده كله أو الجزء الأكبر منه، وذلك عبر قنوات زيادة النشاط الاقتصادي وتحقيق مزيد من الإيرادات للدولة وللمستثمر وللمواطن على حٍّد سواء.
الحقيقة الثانية، أَّن مصدر الَّدين العام يحِّدد كلفته وخطورة التعامل معه، فإن كان الَّدين ناشئ عن مساعدات وقروض دولية رأسمالية واستثمارية، فهو َدين قابل للسداد بشكل كبير، بسبب ارتباطه بكلف منخفضة نسبيًا، من جهة، أو اللجوء، من جهة ثانية، إلى جدولته بكلف متواضعة، في حال عدم التمُّكن بالوفاء به في وقته، أو استبداله باستثمارات دولية، في حال رغبت الدول الدائنة بذلك، أو حتى الإعفاء منه أحيانًا، بالرغم من بعض الُكلف غير المالية التي قد تترَّتب على الدولة جّراء ذلك، أّما إن كان مصدر الدين المؤَّسسات التجارية، والسوق العالمية للسندات، فإَّن ذلك يشير إلى َدين عالي الكلفة نسبيًا، صعب الجدولة، إلا بكلف إضافية مرهقة للاقتصاد، ولا يمكن استبداله باستثمارات، نظرًا لتعدد الدائنين، ولكون معظمهم من المؤَّسسات المصرفية غير المعنية بتغير الهدف من المديونية إلى استثمار أو غيرها، وهو َدين تتطَّلب جدولته، أو الحصول على المزيد منه، إلى اللجوء إلى برامج قاسية تفرضها أوضاع الدولة وعالقتها بالمؤَّسسات الدولية، وخاصة صندوق النقد الدولي، الذي لن يعطي الإذن بالجدولة إلا عبر برامج ووصفات اقتصادية قاسية وُمّرة الطعم والتذوق، بل إَّن المساعدات الدولية لسداد مثل هذا النوع من المديونية لا تأتي إلا بشروط وُكلف سياسية واجتماعية قاسية للغاية.
الحقيقة الثالثة، إَّن التغلب على معضلة تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لن تتحَّقق إلا عبر سياسات تحفيزية تؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الاجمالي في الدولة، أي زيادة حجم الإنتاج السلعي والخدمي في الدولة، وهو أمر لن يتأّتى إلا عبر قنوات تفكيك وتبسيط إجراءات العمل، وخلق بيئة اقتصادية شفافة وفّعالة وذات آفاق تشاركية حقيقية مع القطاع الخاص، تؤدي إلى تحفيز المستثمرين الحاليين على التوُّسع، وتجذب استثمارات جديدة محلية وخارجية، فنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للدولة هو السبيل الأوحد لتحقيق عوائد إضافية لخزينة الدولة، تؤدي من ناحية إلى تغطية النفقات الجارية، وتوِّفر مصدرًا مناسبًا لسداد المديونية، وتؤدي، من ناحية أخرى، إلى تخفيف نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الاجمالي، فتوسيع قاعدة الاقتصاد عبر إجراءات سهلة وميَّسرة، وإجراءات عمل وتقاٍض واضحة وشفافة وسريعة، وبيئة محفزة للابتكار والإبداع، وراعية للمؤَّسسات الصغيرة والمتوسطة، وجميعها أهم من الإعفاءات الضريبية وحدها.
وأخيرًا وليس آخرًا، ضرائب منطقية تصاعدية، سواء أكانت ضرائب مباشرة أم غير مباشرة، كل ذلك هو السبيل للتعامل مع المديونية وخفض نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي، بل والتعامل مع مشكلة البطالة، وتحقيق تنمية مناطقية مستدامة، وتبقى دومًا الخطورة الُمّرة القاسية حينما يكون الَّدين سببه تغطية النفقات الجارية، ومصدره المؤَّسسات التجارية، فتلك هي المديونية صعبة السداد ما لم يتحَّملها الغير بكلف غير مالية مرهقة للغاية.