أعترف بأنني أشعر بالجهل في إدارة المال، وفي تقدير أثر أرقامه التي تزيد عن ألف دينار، ولا يمكنني تصور الأثر العملي للمليون، حتى لو أدركت حجم الرقم نظريا وحسابيا، ولهذا السبب تجتاحني حالة من التعرض للعصف الذهني، حين أتحدث مع شخص أو موظف (مالي) في القطاع الخاص، ولكنني اليوم شعرت بهذا العصف حين حضرت جانبا من حوار، كان يجري بين المساعد المالي والإداري لأمين عام وزارة الزراعة، الدكتور عبدالحليم دوجان، وهو المسؤول الذي تربطني به علاقة متينة من الصداقة، لكنه يفاجئني دوما، حين يحلق أو يحلل شانا أو إجراء في مجاله..
لم يكن الحديث متعلقا بالفساد والنزاهة كما قد يعتقد بعضنا بعد قراءته عنوان المقالة، بل كان الحديث أساسا عن اللامركزية ومشاريعها، وكيف تتعامل الوزارة مع هذه المؤسسة من الحكم المحلي من الجانب الزراعي، وهذا جانب قد لا تسمع عنه مطلقا، إلا حين تستمع لحديث ميداني عادي، يجري في المكاتب الرسمية، حين تجري مراجعات من الأشخاص أو الجهات ذات العلاقة باللامركزية و «همومها»..
في معرض حديثه عن المال في الوزارة، يفصح دوجان عن موقف جاد صامد من قبل وزير الزراعة الحالي المهندس خالد الحنيفات، يقول فيه: ضغطت الوزارة على نفسها الى حدود قصوى شجاعة، وأوقفت الكثير من النفقات، لتوفر دعما ملموسا للمزارعين، وهذا ينعكس على مشاريع تقوم بها الوزارة، لكنها تحتمل وتدير شؤونها بأقل القليل من المال، لتتمكن من توفير دعم للمزارع، وهو موقف قد يكون صعبا على شركاء الوزارة من جهات رسمية وغيرها، وذلك حين كان يبرر للمسؤولين الذين يراجعونه، والذين يعملون على مشاريع اللامركزية في بعض المحافظات..تبريرات بل توضيحات لا بد من سماعها لتفهم موقف الوزارة المالي، وتوجهها الى الهدف الرئيسي من وجودها، وهو دعم وتطوير القطاع الزراعي والعاملين به.
ويقول دوجان: نعم يمكننا تلبية كل المطالب حين يتوافر المال، لكننا نستطيع أيضا تلبيتها دون أن تكون هناك وفرة كبيرة من المال المخصص لهذه المشاريع، فعمل قد يكلفنا مبلغ 100 الف، يمكننا القيام به على شكل مناسب ب 20 ألف دينار فقط! ملاحظة أقحمتني بل اقتحمت معرفتي التي بدت متواضعة في هذا المجال، فهي تعني أن ثمة مسؤولون في وزاراتنا، يفكرون بطريقة حكيمة رشيدة تنسجم والوضع المالي أو الاقتصادي الذي تمر به البلاد، وسرعان ما عبر المستمعون عن موافقتهم الكلية على الفكرة التي طرحها د عبدالحليم دوجان، والذي أكد بأنها ليست مجرد فكرة، بل إن الوزارة تعمل وفقها، وقد نفذت وتنفذ إجراءاتها وفقها، وذكر بعض الأمثلة، الأمر الذي حفز أحد المسؤولين، للحديث عن الحوكمة..
البيروقراطية؛ قد تكون قدرا مبرما، ولا يمكن التخلي عنها نتيجة الالتزام بالإجراءات الكفيلة بتنفيذ المشاريع حسب القانون، لكنها تفسح مجالا كبيرا لهدر المال، بينما كان ممكنا الترشيد بالنفقات، والاقتصار على خمس الموازنة المعدة له، وتحقيق الغاية..
فعلى سبيل المثال:
حين تريد جهة حكومية تدشين بناء حكومي ما، ولنفرض بأنه مدرسة، يكون هناك مراحل قبل او أثناء أو بعد طرح العطاء، من بينها مثلا أن يتم إعداد الرسومات الهندسية لهذا البناء، ولأنني لم أشارك أو أقوم بمشروع شبيه، ولم أحتج يوما ان أذهب لجهة هندسية، من أجل طلب رسم لمخطط عمارة ما، كنت اعتقد بأنها عملية اجرائية مهمة نعم، لكنها بسيطة وغير مكلفة، لكن الأمثلة التي طرحها دوجان شكلت عندي حالة من السخط، فبعض الرسومات الهندسية تكلف الحكومة مبلغ 50 إلى 100 الف، لتدشين مبنى قد لا تزيد كلفته الفعلية عن مليون دينار، والمبنى نفسه قد يتكرر بناؤه في أكثر من مكان، كالمدارس الحكومية مثلا، لكن تقديم الرسوم والمخططات الهندسية إجراء مطلوب مع كل مدرسة او مشروع بناء حكومي، وتسعى المؤسسات بل المسؤولين فيها وحين يتماهون مع الترشيد المطلوب، يسعوا إلى تقليل الانفاق على مثل هذه الإجراءات فيستدرجوا عروضا ويطرحوا عطاءات بهذا الخصوص.
ونتيجة لتعرضي للعصف والاستفزاز من هذه المعلومة، اكتب للحكومة ولكل الحكومات: لماذا لا يكون تصميم المباني موحدا في كل المملكة (المحافظات)، وحسب اغراضها، عندئذ لن ننفق على مخططات ورسوم هندسية في كل مرة، فما المانع مثلا ان تكون المدارس كلها بنفس التصميم، وكذلك المستشفيات، وأي مبان حكومية تنتشر في كل المحافظات لنفس الغاية؟..
هذا مال ينساب حفاظا على إجراءات بيروقراطية، ويمكننا انفاقه مرة واحدة على مشروع واحد، وعدم انفاقه ثانية مهما كان عدد المرات التي ننفذ بها المشروع نفسه في المناطق الأخرى..
وحدوا التصاميم وكثير من الأمور المشابهة، وامنعوا هذا النوع من الإنفاق.