في خضم الأحداث التي تجري داخل القدس الشريف، فإن المرء يتساءل هل هنالك أمل في أن يستفيد الطرف الأضعف من ضعفه النسبي، وأن ينفض العالم غبار النفاق لبني اسرائيل ويعري حقيقة الكثير منهم، ويجردهم من كرسي الكذب الذي تربعوا عليه بحجة أن القدس لهم، وفلسطين لهم.
لقد عشت في القدس أكثر من ثلاث سنوات من منتصف عام 1944. وحتى نهاية عام 1947. ومع أنني لم أتجاوز سن الرابعة إلا بشهرين أو ثلاثة عندما غادرتها، إلا أن مكانتها ما تزال محفورة في القلب بشوارعها، وكعكها، وفلافلها. وكنت أحفظ أسماء أبواب القدس، وأعرف أزقتها. وأتذكر دور السينما التي فيها. ولكن الشيء الذي لا ينسى أبداً هو الذهاب مع والدي للصلاة في المسجد الأقصى. وأذكر الحلم الذي ما زال يراودني، وأنا أحس بنسائم الأقصى تعبث في خصلات شعري، ثم تسري كموج بحر يافا من خصلات الشعر إلى الوجه، فتمنحه ذلك الأريج العاطر.
وعشقت صعود درجات قبة الصخرة، وسجاد الأقصى وقبته، وصوت المقرئ وهو يؤذن للصلاة. ولا أنسى أيضاً سروات الصباح نحو كنيسة القيامة، حيث كنت أهوى الدخول إليها من الباب الخشبي الصغير، والذي إذا ما ولجت فيه إلى ساحة الكنيسة تذكرت ما قاله محمد مهدي الجواهري في يافا
ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب
نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها مِن الدمعِ الظليل بها حِجاب
وكنا نوقد شمعة، ونسرح في اللوحات والرسومات للسيد المسيح وأمه العذراء مريم. والسعي بين الأقصى والقيامة كان بالنسبة لنا الأطفال حدثاً عادياً لم ندرك قيمته إلا بعد زمن.
كان والدي رحمه الله وهو خريج الكلية العربية – في جبل المكبر أنهى فيها سنوات الثانوية وسنتين في دار المعلمين حيث تخصص في تدريس اللغة الانجليزية، مع أن لغته العربية متميزة. وقد عمل في إذاعة الشرق الأدنى مذيعاً لنشرة الأخبار أحياناً، ومقدماً لبرنامج القرية في الإذاعة أحياناً أخرى. ولكن وظيفته الأصلية كانت أستاذا في المدرسة الرشيدية بالقدس.
وكان يجتمع لدى والدي كثيرون من العاملين بالإذاعة أمثال موسى الدجاني، والشيخ عبدالله يوسف، وأناس من أهل القدس والخليل ممن استقروا في القدس. ويدور بينهم الحديث في السياسة، ويتناقشون حول الحاج أمين الحسيني وسياساته، وقربه من ألمانيا. ونتذكر نفراً من آل النشاشيبي ونسيبه والخالدي وغيرهم. أما أبي فقد كان يؤثر الصمت. ولا أتذكر من تلك النقاشات الكثير. وكنت أنتظر بفارغ الصبر عسى أن يقوموا لصلاة المغرب حتى أستمع لصوت الشيخ عبدالله يوسف وهو يرتل جهراً بالقرآن. ولَم يستفزني بعد ذلك إمام في قراءة القرآن وقت الصلاة إلا سماحة الدكتور أحمد هليل، قاضي القضاة سابقاً.
وأذكر ذات يوم صباحاً، وبعد خروج والدي إلى العمل، طرق باب البيت عندنا. وقامت والدتي لترد من خلف الباب بصوت خفيض «مين؟» فأجاب رجل بلهجة خليلية «إحنا من طرف الأستاذ أحمد، جايين ناخد متاع البيت والأثاث لترحلوا إلى بيت الحاج دَاوُدَ القواسمي». فاستنكرت أمي ذلك. وقالت » لم يخبرني أبو جواد بهذا». فرد رجل بلهجة قوية » أم جواد، يختي، أنا الحاج دَاوُدَ القواسمي، أتفقت مع الأستاذ أحمد على أن ننقل أثاثكم إلى بيتي. عندنا حديقة كبيرة، وطابق كامل الكم، بالله يختي، افتحي هالباب». ودخلوا البيت، وحملوا أثاث أبي من الشيخ جراح حيث كنّا نسكن حينها إلى أطراف القدس الغربية، وليس بعيداً عن موقع البنك العربي هناك.
والسبب أن الحاج دَاوُدَ طلب من والدي أن يدرس أولاده فايز وغازي وفهد اللغة الانجليزية، فاعتذر له والدي أنه يسكن بعيداً عن بيت الحاج دَاوُدَ وليس عنده وقت كاف ليفعل ذلك. فما كان من الحاج دَاوُدَ إلا أن قام بنقل الأثاث إلى بيته ولما عاتبه والدي غاضباً من فعلته، فقال له » أيا أستاذ احنا عزوتك في القدس، وانت لا تدري أن لقبي هنا هو «دَاوُدَ العبيط»، وإذا مش عاجبك، أعرفك على أخي أبو النمر هذاك لسه أعبط مني».
كان الحاج دَاوُدَ زعيماً بين أهل الخليل الذي سكنوا القدس حتى يعززوا الوجود الفلسطيني العربي فيها. وبسبب هذه الهجرة، وارتفاع أعداد أهل الخليل سواء من آل القواسمي، أو أدكيدك، أو الدويك، أو طهبوب، أو الحرباوي، أو العسيلي، أو أبو غريبة، أو ناصر الدين، أو حموري، أو يغمور، أو.... أو.. أو وكانت تحدث مخالفات ومعارك بالعصي. وأذكر مرة أن طلب أهل الخليل برئاسة الحاج دَاوُدَ من عائلة طوطح المقدسية بسبب تعرض أحد شبابهم لفتاة خليلية. وقد أمسك الحاج دَاوُدَ بشوارب أحد وجهاء القدس قال له إياك ثم إياك أن يتعرض أحد لأهل الخليل.
وما أزال أذكر من أهل القدس «بقالة الجبشة»، «وملحمة بدرية» في باب العمود، ورائحة شواء الكباب فيها. أما طعامي المفضل فكان الكعك بالفلافل. وأذكر أن والدي آنذاك صار يتأخر أحياناً في القدوم إلى البيت بسبب النزاعات والقتال مع أفراد من العصابات اليهودية هناك.
وروى لي والدي الذي تعرف إلى المرحومين ابراهيم طوقان وأخته فدوى، والذي كان لي شرف اللقاء بها والاستماع لأشعارها. روى لي والدي وحفظني أبياتاً من قصيدة الفدائي، والأهم قصيدة الثلاثاء الحمراء التي نعى فيها ابراهيم طوقان الشهداء الثلاثة الذين دافع عنهم المحامي والسياسي والمناضل عوني عبدالهادي، ولكن الإنجليز صمموا على اعدامهم شنقاً وهم للتذكير فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطاء الزير. وصوَّر ابراهيم طوقان في قصيدته سباق الثلاثة إلى المشنقة كل يريد أن يسبق زميليه في شرف الشهادة. وكان اثنان منهم جمجوم والزير من الخليل.
واستمعت من أمي لقصة معركة الخليل يوم 22/ آب/ 1938 بقيادة البطل عبدالحليم الجولاني الملقب ب «الشّلَف». حيث استطاع أن يصد قوة انجليزية، داخل موقع أسمه » شعب الملح» واتخذ منه الجولاني مركزاً لقواته. وقد كان ساعده الأيمن شخص من أقاربي اسمه «عبدالرحيم المصري». وهو ابن عمة جَدْيَّ حسين وعبدالمحسن.
ودار الزمان على القدس، وخرجنا منها إلى حلحول، ومن ثم انتقلنا إلى بيت لحم حتى ربيع عام 1949، وكان أبي يأتي خلسه لزيارتنا من القدس ويحدثنا عن معركة القسطل حيث أستشهد عبدالقادر الحسيني. وروى بالتفصيل بطولة عبدالقادرالتل في معركة باب الواد، ومعه الراحل حابس المجالي، وكيف استطاعوا الصمود أمام عصابات الهاجانا وشتيرن وغيرها لمدة 33 يوماً حتى يئس أولئك من الوصول إلى القدس الشرقية واحتلالها.
تلك الأيام في القدس أعادت احياء نفسها طيلة حياتي في عمان بعد ان سكنت فيها عام 1952. فقد قابلت المناضل عبدالحليم الجولاني، وتحدثت معه ست ساعات سَجَّلت في مذكراتي خلاصتها. وروى لي عن المعارك التي خاضها. كان الرجل لما قابلته شبه فاقد للبصر، ولكنه كان جالساً كالأسد على كرسيه متوكئاً بيديه على عصا غليظة يحملها. وتبين لي أن آل الجولاني المنحدرين من عبدالقادر الجيلاني هم انسباء آل العناني.
أما مساعده عبدالرحيم المصري فقد تعرفت عليه. ولقد عاش مثله مائة عام. ولما كنت في الولايات المتحدة تعرفت على ابنه الأصغر » ناصر» وهو ما يزال واحداً من أصدقائي الأعزاء حتى الآن.
أما الحاج دَاوُدَ القواسمي الشهير بالعبيط، فقد انتقل إلى مصر حيث كان له تجارة رائجة معها، أما أولاده الثلاثة فقد توفي أحدهم على شاطئ ليبيا، وآخر توفي بجلطة في الخليل. أما إبنه الأصغر فهد، فقد رشح نفسه رئيساً لبلدية الخليل وفاز. ولكن الإسرائيليين نفوه مع رئيس بلدية حلحول محمد حسن ملحم إلى عمان. وكنت ألتقي بكليهما في عمان. وقد حزنت حزناً شديداً لاغتياله عام 1984. وكنت أيامها وزيراً للصناعة والتجارة، وتناولنا الفطور في منزلي عدداً من المرات.
أما بالنسبة للراحل عبدالقادر التل، فقد كان صديقاً لوالدي. وبعد صلاة الجمعة كان يحضر عندنا إلى البيت رافضاً اصرار أبي عليه أن يتناول الغداء، وحضر معه في بعض المرات أناس آخرون مثل المرحوم الحاج عبداللطيف أبو قورة، وأحياناً الحاج ابراهيم منكو رجل الأعمال المبدع، والذي لا بد أن نتعرض لسيرته لاحقاً.
أما بالنسبة لعبدالقادر الحسيني، فقد تعرفت على ابنه المرحوم فيصل في عمّان.
واذكر عام 1997، وأنا للخارجية، سافرت بطائرة هليوكوبتر من القوات الجوية الأردنية إلى رام الله لأنقل رسالة من الراحل الملك الحسين إلى الرئيس الراحل ياسرعرفات، ولما انتهت الزيارة اقترب مني شخص وقال » فيصل الحسيني يسلم عليك ويرجوك أن تمر عليه في اريحا حيث يقيم الآن». ولما التقيت به جلسنا وحدنا وأسَرّ لي أنه كان خائفاً على حياته لأن البعض يتهمه بأنه أخذ خمسة ملايين دولار من جهة خليجية مهمة كان قد زارها، وأن الرئيس الفلسطيني كان غاضباً منه. ونقلت الرسالة إلى جلالة الملك الحسين رحمه الله فسارع بإجراء الاتصالات مع الجهات المعنية قائلاً لي «هذا يا أبو أحمد فيصل ابن عبدالقادر الحسيني ».
أما أمين بدرية صاحب ملحمة بدرية، فقد تبين لي أنه خال لكل من المرحومين شوكت شقم مؤسس مصانع البتراء للألمنيوم، والمرحوم جودت شقم الذي تقاسمت معه شقة في بداية دراستي الجامعية في كاليفورنيا بالولايات المتحدة مع أخيه رأفت الذي هو واحد من الأصدقاء العزيزين. وتزوج أخي الطبيب عبدالرحمن من الطبيبة نديمة التي سُميت على اسم نديمة بدرية أخت صاحب ملحمة بدرية، أما بقالة الجبشة،فقد تعرفت أثناء دراستي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة على أصغر ابناء صاحب البقالة وهو السيد واصف الجبشة. وقدتخرجنا سوياً من الجامعة، وأصبح فيما بعد من أنجح رجال الأعمال في مجال التأمين بالوطن العربي. وهو في نفس الوقت خال السيد محمد أحمد أبو غزالة رئيس مجلس ادارة » ديلمونتي» للإنتاج الزراعي والغذائي والتي تعتبر من أكبر الشركات في هذا القطاع في العالم.
القدس لم تأت حضارتها ولا صمودها عبثاً. ففيها أناس صامدون أقوياء. رحماء فيما بينهم، وأشداء جداً على المحتل المستوطن.
ومع القدس يرعاها ويصون كرامتها آل هاشم. يرممون الأرضيات والقبة، والساحات، والسجاد، ويحرصون على الدفاع بكل ما أوتوا من قوة لاعلاء الحق الفلسطيني والعربي والعالمي في القدس.
والتقيت بالمرحوم حابس باشا المجالي في الكرك بمعيّة الملك الحسين حين زرناه بعد وعكة مرضية ألمت به. أما أنا فقد تعرفت على ابنه المرحوم د. سطام لما كان طالباً يسبقني بسنوات في الكلية العلمية الاسلامية، وابنه سيف في العمل مع سمو الأمير الحسن، ولقد عملت في معية حابس باشا في مجلس الأعيان حيث كان يناديني » يا خال».
القدس خلاقة ولودة، وهي باقية سرمدية خالدة بحبها لمن عمروها لا من ملؤوها شراً وبغياً وعدوانا. واسلمي يا قدس وهو المسلسل الإذاعي الذي أنتجته الإذاعة الأردنية في نهايات عام 1967، وكان من تأليف والدي رحمه الله.
لقد عشت في القدس أكثر من ثلاث سنوات من منتصف عام 1944. وحتى نهاية عام 1947. ومع أنني لم أتجاوز سن الرابعة إلا بشهرين أو ثلاثة عندما غادرتها، إلا أن مكانتها ما تزال محفورة في القلب بشوارعها، وكعكها، وفلافلها. وكنت أحفظ أسماء أبواب القدس، وأعرف أزقتها. وأتذكر دور السينما التي فيها. ولكن الشيء الذي لا ينسى أبداً هو الذهاب مع والدي للصلاة في المسجد الأقصى.
وأذكر الحلم الذي ما زال يراودني، وأنا أحس بنسائم الأقصى تعبث في خصلات شعري، ثم تسري كموج بحر يافا من خصلات الشعر إلى الوجه، فتمنحه ذلك الأريج العاطر.
وعشقت صعود درجات قبة الصخرة، وسجاد الأقصى وقبته، وصوت المقرئ وهو يؤذن للصلاة. ولا أنسى أيضاً سروات الصباح نحو كنيسة القيامة، حيث كنت أهوى الدخول إليها من الباب الخشبي الصغير، والذي إذا ما ولجت فيه إلى ساحة الكنيسة تذكرت ما قاله محمد مهدي الجواهري في يافا
ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب
نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها مِن الدمعِ الظليل بها حِجاب
وكنا نوقد شمعة، ونسرح في اللوحات والرسومات للسيد المسيح وأمه العذراء مريم. والسعي بين الأقصى والقيامة كان بالنسبة لنا الأطفال حدثاً عادياً لم ندرك قيمته إلا بعد زمن.
كان والدي رحمه الله وهو خريج الكلية العربية – في جبل المكبر أنهى فيها سنوات الثانوية وسنتين في دار المعلمين حيث تخصص في تدريس اللغة الانجليزية، مع أن لغته العربية متميزة. وقد عمل في إذاعة الشرق الأدنى مذيعاً لنشرة الأخبار أحياناً، ومقدماً لبرنامج القرية في الإذاعة أحياناً أخرى. ولكن وظيفته الأصلية كانت أستاذا في المدرسة الرشيدية بالقدس.
وكان يجتمع لدى والدي كثيرون من العاملين بالإذاعة أمثال موسى الدجاني، والشيخ عبدالله يوسف، وأناس من أهل القدس والخليل ممن استقروا في القدس. ويدور بينهم الحديث في السياسة، ويتناقشون حول الحاج أمين الحسيني وسياساته، وقربه من ألمانيا. ونتذكر نفراً من آل النشاشيبي ونسيبه والخالدي وغيرهم. أما أبي فقد كان يؤثر الصمت. ولا أتذكر من تلك النقاشات الكثير. وكنت أنتظر بفارغ الصبر عسى أن يقوموا لصلاة المغرب حتى أستمع لصوت الشيخ عبدالله يوسف وهو يرتل جهراً بالقرآن. ولَم يستفزني بعد ذلك إمام في قراءة القرآن وقت الصلاة إلا سماحة الدكتور أحمد هليل، قاضي القضاة سابقاً.
وأذكر ذات يوم صباحاً، وبعد خروج والدي إلى العمل، طرق باب البيت عندنا. وقامت والدتي لترد من خلف الباب بصوت خفيض «مين؟» فأجاب رجل بلهجة خليلية «إحنا من طرف الأستاذ أحمد، جايين ناخد متاع البيت والأثاث لترحلوا إلى بيت الحاج دَاوُدَ القواسمي». فاستنكرت أمي ذلك. وقالت » لم يخبرني أبو جواد بهذا». فرد رجل بلهجة قوية » أم جواد، يختي، أنا الحاج دَاوُدَ القواسمي، أتفقت مع الأستاذ أحمد على أن ننقل أثاثكم إلى بيتي. عندنا حديقة كبيرة، وطابق كامل الكم، بالله يختي، افتحي هالباب». ودخلوا البيت، وحملوا أثاث أبي من الشيخ جراح حيث كنّا نسكن حينها إلى أطراف القدس الغربية، وليس بعيداً عن موقع البنك العربي هناك.
والسبب أن الحاج دَاوُدَ طلب من والدي أن يدرس أولاده فايز وغازي وفهد اللغة الانجليزية، فاعتذر له والدي أنه يسكن بعيداً عن بيت الحاج دَاوُدَ وليس عنده وقت كاف ليفعل ذلك. فما كان من الحاج دَاوُدَ إلا أن قام بنقل الأثاث إلى بيته ولما عاتبه والدي غاضباً من فعلته، فقال له » أيا أستاذ احنا عزوتك في القدس، وانت لا تدري أن لقبي هنا هو «دَاوُدَ العبيط»، وإذا مش عاجبك، أعرفك على أخي أبو النمر هذاك لسه أعبط مني».
كان الحاج دَاوُدَ زعيماً بين أهل الخليل الذي سكنوا القدس حتى يعززوا الوجود الفلسطيني العربي فيها. وبسبب هذه الهجرة، وارتفاع أعداد أهل الخليل سواء من آل القواسمي، أو أدكيدك، أو الدويك، أو طهبوب، أو الحرباوي، أو العسيلي، أو أبو غريبة، أو ناصر الدين، أو حموري، أو يغمور، أو.... أو.. أو وكانت تحدث مخالفات ومعارك بالعصي. وأذكر مرة أن طلب أهل الخليل برئاسة الحاج دَاوُدَ من عائلة طوطح المقدسية بسبب تعرض أحد شبابهم لفتاة خليلية. وقد أمسك الحاج دَاوُدَ بشوارب أحد وجهاء القدس قال له إياك ثم إياك أن يتعرض أحد لأهل الخليل.
وما أزال أذكر من أهل القدس «بقالة الجبشة»، «وملحمة بدرية» في باب العمود، ورائحة شواء الكباب فيها. أما طعامي المفضل فكان الكعك بالفلافل. وأذكر أن والدي آنذاك صار يتأخر أحياناً في القدوم إلى البيت بسبب النزاعات والقتال مع أفراد من العصابات اليهودية هناك.
وروى لي والدي الذي تعرف إلى المرحومين ابراهيم طوقان وأخته فدوى، والذي كان لي شرف اللقاء بها والاستماع لأشعارها. روى لي والدي وحفظني أبياتاً من قصيدة الفدائي، والأهم قصيدة الثلاثاء الحمراء التي نعى فيها ابراهيم طوقان الشهداء الثلاثة الذين دافع عنهم المحامي والسياسي والمناضل عوني عبدالهادي، ولكن الإنجليز صمموا على اعدامهم شنقاً وهم للتذكير فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطاء الزير. وصوَّر ابراهيم طوقان في قصيدته سباق الثلاثة إلى المشنقة كل يريد أن يسبق زميليه في شرف الشهادة. وكان اثنان منهم جمجوم والزير من الخليل.
واستمعت من أمي لقصة معركة الخليل يوم 22/ آب/ 1938 بقيادة البطل عبدالحليم الجولاني الملقب ب «الشّلَف». حيث استطاع أن يصد قوة انجليزية، داخل موقع أسمه » شعب الملح» واتخذ منه الجولاني مركزاً لقواته. وقد كان ساعده الأيمن شخص من أقاربي اسمه «عبدالرحيم المصري». وهو ابن عمة جَدْيَّ حسين وعبدالمحسن.
ودار الزمان على القدس، وخرجنا منها إلى حلحول، ومن ثم انتقلنا إلى بيت لحم حتى ربيع عام 1949، وكان أبي يأتي خلسه لزيارتنا من القدس ويحدثنا عن معركة القسطل حيث أستشهد عبدالقادر الحسيني. وروى بالتفصيل بطولة عبدالقادرالتل في معركة باب الواد، ومعه الراحل حابس المجالي، وكيف استطاعوا الصمود أمام عصابات الهاجانا وشتيرن وغيرها لمدة 33 يوماً حتى يئس أولئك من الوصول إلى القدس الشرقية واحتلالها.
تلك الأيام في القدس أعادت احياء نفسها طيلة حياتي في عمان بعد ان سكنت فيها عام 1952. فقد قابلت المناضل عبدالحليم الجولاني، وتحدثت معه ست ساعات سَجَّلت في مذكراتي خلاصتها. وروى لي عن المعارك التي خاضها. كان الرجل لما قابلته شبه فاقد للبصر، ولكنه كان جالساً كالأسد على كرسيه متوكئاً بيديه على عصا غليظة يحملها. وتبين لي أن آل الجولاني المنحدرين من عبدالقادر الجيلاني هم انسباء آل العناني.
أما مساعده عبدالرحيم المصري فقد تعرفت عليه. ولقد عاش مثله مائة عام. ولما كنت في الولايات المتحدة تعرفت على ابنه الأصغر » ناصر» وهو ما يزال واحداً من أصدقائي الأعزاء حتى الآن.
أما الحاج دَاوُدَ القواسمي الشهير بالعبيط، فقد انتقل إلى مصر حيث كان له تجارة رائجة معها، أما أولاده الثلاثة فقد توفي أحدهم على شاطئ ليبيا، وآخر توفي بجلطة في الخليل. أما إبنه الأصغر فهد، فقد رشح نفسه رئيساً لبلدية الخليل وفاز. ولكن الإسرائيليين نفوه مع رئيس بلدية حلحول محمد حسن ملحم إلى عمان. وكنت ألتقي بكليهما في عمان. وقد حزنت حزناً شديداً لاغتياله عام 1984. وكنت أيامها وزيراً للصناعة والتجارة، وتناولنا الفطور في منزلي عدداً من المرات.
أما بالنسبة للراحل عبدالقادر التل، فقد كان صديقاً لوالدي. وبعد صلاة الجمعة كان يحضر عندنا إلى البيت رافضاً اصرار أبي عليه أن يتناول الغداء، وحضر معه في بعض المرات أناس آخرون مثل المرحوم الحاج عبداللطيف أبو قورة، وأحياناً الحاج ابراهيم منكو رجل الأعمال المبدع، والذي لا بد أن نتعرض لسيرته لاحقاً.
أما بالنسبة لعبدالقادر الحسيني، فقد تعرفت على ابنه المرحوم فيصل في عمّان. واذكر عام 1997، وأنا للخارجية، سافرت بطائرة هليوكوبتر من القوات الجوية الأردنية إلى رام الله لأنقل رسالة من الراحل الملك الحسين إلى الرئيس الراحل ياسرعرفات، ولما انتهت الزيارة اقترب مني شخص وقال » فيصل الحسيني يسلم عليك ويرجوك أن تمر عليه في اريحا حيث يقيم الآن». ولما التقيت به جلسنا وحدنا وأسَرّ لي أنه كان خائفاً على حياته لأن البعض يتهمه بأنه أخذ خمسة ملايين دولار من جهة خليجية مهمة كان قد زارها، وأن الرئيس الفلسطيني كان غاضباً منه. ونقلت الرسالة إلى جلالة الملك الحسين رحمه الله فسارع بإجراء الاتصالات مع الجهات المعنية قائلاً لي «هذا يا أبو أحمد فيصل ابن عبدالقادر الحسيني ».
أما أمين بدرية صاحب ملحمة بدرية، فقد تبين لي أنه خال لكل من المرحومين شوكت شقم مؤسس مصانع البتراء للألمنيوم، والمرحوم جودت شقم الذي تقاسمت معه شقة في بداية دراستي الجامعية في كاليفورنيا بالولايات المتحدة مع أخيه رأفت الذي هو واحد من الأصدقاء العزيزين. وتزوج أخي الطبيب عبدالرحمن من الطبيبة نديمة التي سُميت على اسم نديمة بدرية أخت صاحب ملحمة بدرية، أما بقالة الجبشة،فقد تعرفت أثناء دراستي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة على أصغر ابناء صاحب البقالة وهو السيد واصف الجبشة. وقدتخرجنا سوياً من الجامعة، وأصبح فيما بعد من أنجح رجال الأعمال في مجال التأمين بالوطن العربي. وهو في نفس الوقت خال السيد محمد أحمد أبو غزالة رئيس مجلس ادارة » ديلمونتي» للإنتاج الزراعي والغذائي والتي تعتبر من أكبر الشركات في هذا القطاع في العالم.
القدس لم تأت حضارتها ولا صمودها عبثاً. ففيها أناس صامدون أقوياء. رحماء فيما بينهم، وأشداء جداً على المحتل المستوطن.
ومع القدس يرعاها ويصون كرامتها آل هاشم. يرممون الأرضيات والقبة، والساحات، والسجاد، ويحرصون على الدفاع بكل ما أوتوا من قوة لاعلاء الحق الفلسطيني والعربي والعالمي في القدس.
والتقيت بالمرحوم حابس باشا المجالي في الكرك بمعيّة الملك الحسين حين زرناه بعد وعكة مرضية ألمت به. أما أنا فقد تعرفت على ابنه المرحوم د. سطام لما كان طالباً يسبقني بسنوات في الكلية العلمية الاسلامية، وابنه سيف في العمل مع سمو الأمير الحسن، ولقد عملت في معية حابس باشا في مجلس الأعيان حيث كان يناديني » يا خال».
القدس خلاقة ولودة، وهي باقية سرمدية خالدة بحبها لمن عمروها لا من ملؤوها شراً وبغياً وعدوانا. واسلمي يا قدس وهو المسلسل الإذاعي الذي أنتجته الإذاعة الأردنية في نهايات عام 1967، وكان من تأليف والدي رحمه الله.