منذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، دخل السودان مرحلة مظلمة من الحكم العسكري المباشر، حين أطاح قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالحكومة المدنية الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك، ومنذ ذلك الحين، تماهى الحكم مع تحالف غير معلن بين قادة الجيش ومكونات متطرفة من الحركة الإسلامية، في إعادة إنتاج لمشهد ما قبل الثورة، إنما تحت غطاء جديد يتمثل في حكومة ترفع شعارات «المدنية» وتستعين بتكنوقراط صوريين، دون أن تنفصل عن دائرة النفوذ العسكري والأمني المترهل.
وبينما يستعر القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في معظم أنحاء البلاد، استقرت سلطة البرهان في مدينة بورتسودان الساحلية، حيث تحاول فرض حكومة أمر واقع بقيادة البروفيسور كامل إدريس، في خطوة يرى كثيرون أنها محاولة لمنح الانقلاب غطاءً مدنيًا هشًا، وسط تفكك سياسي، وانهيار اقتصادي، وعزلة دولية متنامية.
ميدان تنازع بين الإسلاميين والحركات المسلحة
مع الإعلان عن تعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء فيما تُعرف بحكومة بورتسودان، بدا أن الجنرالات بصدد تجريب وصفة جديدة: التكنوقراط بواجهة مدنية، وتفويض صلاحيات شكلية، في محاولة لكسر طوق العزلة الدولية. لكن خلف هذه الواجهة، تجري معركة شرسة على النفوذ بين الأجنحة العسكرية المتحالفة والإسلاميين الطامحين للعودة الكاملة إلى السلطة عبر البوابة الخلفية.
وبحسب مصادر سياسية مطلعة، فإن قرار البرهان بإلغاء إشراف مجلس السيادة على الوزارات، ومنح إدريس «صلاحيات مدنية» واسعة، لا يعدو كونه غطاءًا لتمرير خطة الإسلاميين الرامية إلى حجز مواقع مفصلية لهم داخل الحكومة الجديدة، من خلال تقديم شخصيات محسوبة على الصف الثاني تحت مسمى «تكنوقراط».
وهي المناورة ذاتها التي استخدمت سابقًا لاختراق مؤسسات الدولة خلال عهدي البشير والانقلاب.
لكن هذا الإجراء، وإن بدا ظاهريًا محاولة لترميم صورة الحكم، فإنه أطلق صافرة إنذار وسط حلفاء البرهان من الحركات المسلحة التي بدأت تدرك أن ما يجري ليس إعادة تقاسم للسلطة، بل إقصاء تدريجي لها من الوزارات السيادية، خصوصًا المالية والمعادن، وهي الوزارات التي تمثل «الكنز الاستراتيجي» في ظل اقتصاد حرب يعتمد على الذهب كمصدر تمويل رئيسي.
احتدام التوترات: الحركات المسلحة في زاوية الخوف والتراجع
في ظل اقتراب تشكيل حكومة بورتسودان، تتكثف المخاوف داخل صفوف الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، والتي تشارك فعليًا في الحكومة الانتقالية منذ عام 2020. فهذه الحركات، التي خسرت مناطق نفوذ واسعة في دارفور وتراجعت ميدانيًا أمام قوات الدعم السريع، بدأت تشعر بأن كراسي السلطة تُنتزع من تحتها بتواطؤ إسلامي – عسكري.
ووفق تحليل للباحث عبدالله محمد آدم إبراهيم، فإن فقدان السيطرة الميدانية أدى إلى تآكل المبرر السياسي لوجود هذه الحركات داخل الحكومة، مما دفع بعض قادتها إلى التشبث بمناصبهم كآخر خطوط الدفاع، فيما انخرط آخرون في صراعات داخلية مريرة حول جدوى البقاء في تحالف بورتسودان، أو البحث عن تسويات منفصلة مع قوى أخرى.
وتتجلى مظاهر هذا التوتر في النقاشات الحادة حول وزارة المعادن، التي تُعد – إلى جانب المالية – إحدى الركائز الأساسية لأي مشروع حكم في السودان اليوم، نظراً للعوائد الضخمة التي يدرها قطاع الذهب؛ فقد بلغت صادرات الذهب السوداني قبل اندلاع الحرب حوالي 200 طن سنويًا، وتعد البلاد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا؛ وهو ما يجعل السيطرة على هذه الوزارة هدفًا رئيسيًا لكل طرف يسعى لضمان التمويل والنفوذ.
العزلة الدولية وضغوط الخارج: لا مكان للنعومة
في مقالها بصحيفة «الجريدة»، نقلت الكاتبة السودانية صباح محمد الحسن عن السفير الأمريكي السابق لدى السودان، تيموثي مايكل كارني، قوله إن حكومة بورتسودان لم تعد تحظى بأي اعتراف جدي من المجتمع الدولي، ما يدفع واشنطن إلى التخلي عن لغة الدبلوماسية الناعمة في التعامل معها.
وتشير الحسن إلى أن العقوبات الأمريكية الأخيرة بسبب استخدام الأسلحة الكيماوية قد تكون مجرد بداية لعقوبات أوسع، تهدد بإنهاء مستقبل البرهان السياسي، وتفتح الباب أمام محاسبة تنظيم الإخوان على الانتهاكات المرتكبة خلال الحرب.
مسرح تصفية الحسابات وليس مشروعًا وطنيًا
في تقييم الحزب الشيوعي السوداني، لا يُنظر إلى تعيين إدريس إلا بوصفه محاولة فاشلة لترقيع شرعية الانقلاب، فيما الحرب تستعر وتتوسع، والمجاعة تحصد أرواح الأطفال، والأزمات الإنسانية تزداد تفاقمًا.
ويحذر الحزب من خطورة هذا «الغطاء المدني» الذي يُمنح لانقلاب عسكري يُدار خلف الكواليس من قبل كتائب إسلامية متطرفة، تتخفى تحت عباءة الدولة وتعيد إنتاج شبكات الفساد والمؤسسات القمعية.
ويطالب الحزب، في المقابل، بتوسيع قاعدة المقاومة الشعبية، وإعادة إحياء أدوات الضغط السياسي والنقابي، والتصعيد من أجل وقف الحرب، وتحقيق انتقال مدني حقيقي، بعيدًا عن مسرحية التكنوقراط التي تُدار بخيوط خفية من جنرالات بورتسودان.
في المحصلة، يبدو أن كامل إدريس – أياً كانت نواياه – قد دخل حقل ألغام سياسي حقيقي، حيث تتكالب عليه أطراف متصارعة، وتُرسم حوله خطوط حمراء بمداد من دماء الحرب، وجشع المصالح، وخداع «التكنوقراط» الذي لم يعد يخدع أحدًا