كنا ننتظره ساعات، ونقفل عائدين للمنزل نجرجر أذيال الخيبة، بعد أن (فات الميعاد) جراء طول الإنتظار، ويتلاشى مخططنا الذي سهرنا عليه طول الليالي الماضية، (نطبّع) أنفسنا على كيفيات وآليات التعامل مع المدينة.. ماذا نلبس، أين سنجلس، ماذا سنأكل ونشرب، كيف سنتحدث، هل سنزور اقاربنا القاطنين في المدينة.. وكثير من التفاصيل عن الرحلة الافتراضية حتى العودة للقرية، لكنها كلها تبددت بسبب تأخر الباص، وفي الليل تحيا القصة من جديد، حين تطالعنا عناوين الثرثرة من الجيران والأصدقاء:
كان الباص خربانا، تعرض لحادث، سائقه مريض، مشغول بالترخيص، ممنوع من الحركة بأمر قضائي فهو لم يدفع عدة أقساط للبنك، ذهب مع جماعة العريس من القرية المجاورة إلى عمان، رحلة مدرسية.. الى آخر السواليف، التي تشكل مروحة واسعة من التحليلات والاشاعات، كلها تحاول أن تخفف وقع الخيبة التي حصدناها من وراء خراب مشوارنا للمدينة بسبب عدم قدوم الباص، فالرحلة الى المدينة مشروع تم وأده في مهده، حيث لا فرصة أخرى هذا الصيف للذهاب في هذه الرحلة الاستكشافية للمدينة.
اليوم؛ كم سؤالا جديدا في اذهاننا حول مشروع الباص السريع، بعد أن طرحنا آلافا منها في عقد ونصفه من السنوات، أمضيناه ننتظر استعادة شوارع المدينة؟.. بالمناسبة:
كم كان عدد ومعدل السيارات التي تسير على شوارع عمان قبل 15عاما؟! هل حقا سنحصل على سير منظم سلس فوق شوارع العاصمة الأكثر اكتظاظا، بعد أن اكتملت مرحلة ما من مراحل مشروع الباص السريع؟!.. حتى لو كان الجواب بالنفي، فهو طبيعي، لأن المدينة تكبر وسياراتها تزداد عددا، حتى إن بعض مواليدها الذين ولدوا والعمل جار على المشروع، أصبحوا او سيصبحون بعد عام او عامين يمتلكون او يقودون سيارات وبكبات وباصات ودراجات، هم لوحدهم يحتاجون لشبكة طرقات كاملة.. فعددهم كبير.
أمس الأول اطلق رئيس الوزراء قافلة النقل الوطنية التي انتظرناها طويلا، وهذه مناسبة تستحق التأريخ لها، بعد هذا الانتظار الماراثوني، الذي فقدنا معه نصف مساحة شوارع العاصمة المكتظة، فازداد الاكتظاظ فيها، وشهدت جنباتها تحولات اقتصادية وغيرها، حتى إن بعض المحلات التجارية (ماتت وضاعت أهميتها ولن تستأنف عملها القديم).. لكننا أخيرا وصلنا، وحصلنا على باص نقل عام، من المفروض أن يغير وينظم ويخفف على الناس وعلى شوارع المدينة.. وحدث تخفيف دم غريب عجيب منذ الساعات الأولى لانطلاق اول باص:
وفوق التندر اللا مسؤول، والذي شاركت فيه بدوري باقتراح تحديد مقاعد حزبية وكوتات من بين مقاعد الباص.. شهدنا حالة من التغابي واللامبالاة وعدم الاكتراث لقانون او مصلحة عامة، مارسها مواطنون يقودون سياراتهم يوميا على الشوارع، لكنهم ارادوا التغابي والتجاوز فوق القانون، فدخلوا الى مسار الباص حين تم فتحه، ضاربين عرض الحائط بكل قانون وقيمة وعرف..! وكذلك فعل المشاة، بل قيل إن حادث صدم او دهس، تعرض له مواطن من الباص السريع نفسه.. نتمنى له السلامة، لكن الموقف طريف ويعبر عن عدم معرفة الناس بأن هذا الشارع مخصص فقط لباص لا يتوقف الا في اماكن واوقات معينة ويكون توقفه لفترة محسوبة أيضا، ولا يجوز عبوره من مشاة الا من مناطق محددة، وهنا لا بد من التنويه أن الأمن العام، ومن خلال مديرية السير اصدر تعليمات وسوف يقوم بإجراءات ويحدد مخالفات مشددة على كل من يعتدي على مسار الباص، ولا أشك في أن مدير ادارة السير التابعة للأمن العام، العقيد النشمي فراس الصعوب، سيقوم بالمهمة من خلال زملائه الأنيقين المنتشرين كل الوقت في كل شوارع المدينة الحيوية.
لن أستبق أحداثا، وأبارك لرواد وأهل عمان انطلاق الباص، وأدوّن في ذهني كغيري، بأن اول باص سريع في الأردن انطلق في عهد حكومة بشر الخصاونة، كما نؤرخ وندوّن لإنجازات شبيهة لحكومات قديمة سابقة (كأول نفق، وأول جسر..الخ)..
لكنني في الوقت نفسه أذكر باقتراح كتبته سابقا في هذه الزاوية:
إن لم تتغير نظرتنا لوسائط النقل العام والقيام طوعا بما يخفف الإكتظاظ ويحافظ على بيئة المدينة، فيجب أن يكون مسار الباص السريع متاحا لكل وسائط نقل الركاب، وليس لباص او شركة بعينها، وهذا ما ستؤول إليه النتيجة النهائية باعتقادي، ولو بعد حين، لأن هذا هو المنطق والصحيح الذي لا يصحّ غيره، فنحن إن كنتم نسيتم، نتحدث عن مدينة بل عاصمة متنامية تتسع كل ساعة، ويزداد عدد سكانها، ولا تعيش حياة مترفة، وعليها ان تكابد لتبقى أجمل وأنظف وأكثر هدوءا.
تخيلوا لو أن حظرا كورونيا شاملا قادما، يسري بموجب أمر دفاع، يمنع الحركة لأية وسيلة نقل خاصة او عامة، ويستثنى منها الباص السريع وحده.. وهذا جموح في الخيال قد يكون لو حدث، بمثابة تمرين حيّ يمهد لثقافة مفقودة ومطلوبة..