قبل سنة من اليوم، ومع إعلان الدولة اللبنانيّة تخلّفها رسميًّا ولأوّل مرة عن سداد سندات اليوروبوند، أي سندات الدين المقوّمة بالعملة الأجنبيّة، كان السؤال البديهي الذي طرحناه: كيف ستكون نتيجة توزيع خسائر الانهيار؟ أو بعبارة أوضح وأدق: من سيدفع الثمن؟
لم يكن السؤال في ذلك الوقت شعارًا سياسيًا شعبويًا بسيطًا، بل وعلى العكس تمامًا، لم يكن الحديث الصريح عن الخسائر والإجراءات الصارمة والقاسية مسألة جذّابة للجماهير. لكنّ تجارب الشعوب مع جميع الانهيارات الاقتصاديّة عبر التاريخ، كانت تؤكّد أن أي انهيار من هذا النوع لا يمكن الخروج منه قبل المفاضلة الواعية والمدروسة، أو حتّى العبثيّة والفوضويّة، بين خيارات يؤدّي كلّ منها إلى توزيع مختلف للخسائر. مع العلم أن ما شهده لبنان لم يكن ضغطًا محدودًا على سعر الصرف نتيجة شح بسيط في التحويلات الماليّة، ولا مجرّد انهيار محدود في بعض المصارف، بل انهيار شامل ثلاثي الأبعاد: بين نظام مالي تعثّر بمصارفه التجاريّة ومصرفه المركزي نتيجة كتلة هائلة من الخسائر، ودولة أفلست وأعلنت تعثّرها في سداد سنداتها المقومة بالعملة الأجنبيّة، وعملة محليّة بات انهيارها يضع البلاد أمام تضخّم مفرط لا حدود له
خلال الأيام الماضية، اشتعل الشارع اللبناني مرّة جديدة مع الانهيارات المتتالية في سعر صرف الليرة، التي تجاوزت للمرّة الأولى حاجز العشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، وهو ما يتجاوز بـ6.6 مرّة قيمة سعر الصرف الرسمي القديم، الذي عرفته البلاد قبل حصول الانهيار المالي الأخير. وفي بلاد تعتمد على البضائع والخدمات المستوردة بالدرجة الأولى، لم يعنِ انهيار سعر الصرف سوى انهيارًا موازيًا وسريعًا في القدرة الشرائيّة للمواطنين، وخصوصًا مع اعتماد الغالبيّة الساحقة منهم على المداخيل المقوّمة بالعملة المحليّة. علمًا بأن الحد الأدنى للأجور تراجع نتيجة انهيار سعر الصرف إلى ما يقارب 70 دولارًا أميركيًا، بعد أن كان يساوي قبل الأزمة نحو 450 دولارًا أميركيًا، وبذلك؛ أصبح الحد الأدنى للرواتب في لبنان من بين الأدنى في العالم
عمليًّا، لا يمكن فصل ما يجري من تطورات على مستوى سعر صرف الليرة اللبنانيّة، عن القرارات المتعلّقة بالمعالجات الماليّة والنقديّة، وهي القرارات التي تحدد في المحصّلة طريقة توزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار. وإذا كان تذبذب سعر الصرف في أولى الأشهر التي تلت حصول الانهيار المالي قد نتج بشكل مباشر عن آثار الضغوطات التي تعرّض لها النظام المالي، فانهيار سعر الصرف بهذا الشكل اليوم بات يعبّر عن سياسات مقصودة وممنهجة، تمادت في خلق النقد بالعملة المحليّة وخنق المتاح منه بالعملة الأجنبيّة، في محاولة لتحييد أكثر الفئات نفوذًا عن كلفة الانهيار، في مقابل تحميلها لأكثر الفئات تأثّرًا بالتضخّم المفرط وانهيار سعر الصرف: أصحاب الدخل المحدود.
طبع النقد لسداد الديون
كان من المفترض أن يكون امتناع الدولة اللبنانيّة عن سداد سنداتها بالعملات الاجنبيّة في شهر آذار من العام الماضي فرصةً لتنطلق الحكومة في عمليّة تفاوض مع جميع دائنيها، للتوصّل إلى تفاهمات يمكن أن تفضي إلى إعادة هيكلة هذه الديون بآجال وفوائد جديدة، مع حسومات تقلّص حجم هذه الديون إلى مستويات تمكّن الدولة من النهوض من جديد. ولعلّ العرف الذي يقضي بدخول الدول المتعثّرة في هذا النوع من المفاوضات الشاقّة هو ما دفع شركة لازار، وهي الشركة التي عينتها الحكومة اللبنانيّة كمستشار ماليّ أجنبيّ، إلى الإصرار على الخطة التي اقترحتها على إعادة جدولة جميع الديون، بما فيها تلك التي تستحق بالعملة المحليّة لمصلحة المصارف اللبنانيّة، مع احتساب نسبة من الحسومات من أصل قيمة السندات والفوائد
مع قيام مصرف لبنان بإقراض الدولة لتسدد ديونها للمصارف، كانت ديون الدولة تنتقل من ميزانيات المصارف إلى ميزانيات مصرف لبنان، وهو ما يعني عدم إمكانيّة مفاوضة المصارف على هذه الديون في المستقبل
لكن في ذلك الوقت، تكتّل طيف واسع من الكتل النيابيّة في البرلمان اللبناني للانقلاب على الخطة، وتحديدًا بسبب انطوائها على بعض المقاربات التي لم تعجب الفئات الأكثر نفوذًا داخل النظام المصرفي، كفكرة إعادة جدولة جميع الديون السياديّة واحتساب نسبة من الحسومات منها. علمًا أن الانقلاب على الخطة جاء من بوابة الاختلاف التقني في تقدير الخسائر المتوقّعة، حيث تبنّى المجلس النيابي جميع المقاربات البديلة التي قدمها مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، ولو أنّها لم تتضمّن اعترافًا صريحًا بخسائر القطاع المصرفي والفجوات في ميزانياته وتعاملًا معها. وبعد إسقاط الخطة في المجلس النيابيّ، واستقالة الحكومة اللبنانيّة لاحقًا، جرى تعليق مسألة الديون السياديّة المقومة بالليرة اللبنانيّة، بانتظار تشكيل حكومة جديدة يمكنها أن تفاوض المصارف على مسألة هذه الديون لاحقًا. وحتّى اللحظة، لم تشكّل هذه الحكومة، رغم مرور نحو ثمانية أشهر على استقالة الحكومة السابقة
لكن في هذه الأثناء، ثمة من كان يعمل في الخفاء لحماية مصالح المصارف اللبنانيّة في ظل الأزمة. فمنذ إعلان الدولة اللبنانيّة تعثّرها في شهر آذار من العام الماضي، وبينما كان من المفترض أن تكون ديون الدولة لمصلحة المصارف بالليرة موضوع تفاوض مع الحكومة، كان مصرف لبنان يتوسّع في خلق النقد ليقرض الدولة، من أجل سداد سنداتها المستحقة بالليرة للمصارف. وهكذا، ومع قيام مصرف لبنان بإقراض الدولة لتسدد ديونها للمصارف، كانت ديون الدولة تنتقل من ميزانيات المصارف إلى ميزانيات مصرف لبنان، وهو ما يعني عدم إمكانيّة مفاوضة المصارف على هذه الديون في المستقبل. وفي الوقت نفسه، وبما أنّ ديون الدولة هي اليوم بحكم الديون المتعثّرة، كان مصرف لبنان يزيد من قيمة الفجوات والخسائر المتوقعة في ميزانيته الناتجة عن ديون الدولة اللبنانيّة، في مقابل تخليص المصارف من هذه الديون المتعثّرة
كلفة هذه الخطوات لم تكن عرقلة مسألة المفاوضات أو تضخيم الفجوات في ميزانيّة مصرف لبنان فحسب. فالكلفة الأكبر كانت الضغط الهائل على العملة المحليّة، الناتج عن خلق ما يقارب 3.46 ألف مليار ليرة من النقد، بين شهري آذار وتشرين الثاني من العام الماضي، لتمكين الدولة من سداد هذه الديون بهذا الشكل. مع العلم أن قيمة النقد الذي خلقه مصرف لبنان لهذه الغاية تحديدًا، كانت توازي نحو 12.4% من إجمالي النقد المتداول في السوق بالعملة المحليّة في شهر تشرين الثاني، وهي نسبة زيادة ضخمة، ساهمت في الضغط على سعر صرف الليرة طوال الأشهر الماضية. وهكذا، كان العامل الأوّل الكامن خلف خلق النقد ودفع الليرة نحو الانهيار، هو حماية مصالح المصارف من إمكانيّة أي مساس بقيمة أو آجال سندات الخزينة التي تحملها، عبر نقل هذا الدين إلى ميزانيات مصرف لبنان
إعادة رسملة المصارف
طوال الفترة الماضية، تحدّث حاكم مصرف لبنان عن مسار «حث عملائها الذين قاموا بتحويلات إلى الخارج خلال السنوات السابقة على إعادة هذه السيولة إلى النظام المصرفي، وهو ما يمكن أن يساهم في تحسين الظروف على المستوى النقدي في لبنان. لكنّ هذه التعاميم لم تقدّم أي موجب قانوني يمكن أن يفرض إعادة هذه الودائع من الخارج، خصوصًا أن الانهيار الحاصل وانعدام الثقة بالمصارف اللبنانيّة لن يشجع أي مودع على إعادة دولاراته إلى النظام المصرفي المحلي. ولذلك، ظلّت هذه النقطة في التعاميم غامضة حتّى أمس القريب
لكن، ما إن اقتربت المصارف اللبنانيّة من بلوغ المهلة النهائيّة الممنوحة لها لتأمين هذه السيولة في نهاية الشهر الماضي، حتّى تبيّن أن عملية إعادة الرسملة لم تنطوِ على إعادة أي دولارات من الخارج إلى النظام المصرفي لإنعاشه. بل على العكس تمامًا؛ ما جرى كان لجوء المصارف إلى عمليّة امتصاص واسعة ومنظمة للدولارات من السوق المحليّة الموازيّة، بهدف تأمين هذه النسبة من السيولة، وإيداعها في حساباتها في الخارج
أما النتيجة البديهيّة لهذه الخطوات، فكانت إرهاق السوق المحليّة بعمليات سحب الدولارات هذه، والتسبب بمزيد من الضغط على سعر صرف الليرة. مع العلم أن نسبة السيولة التي طلب مصرف لبنان من المصارف أن تكونها في حساباتها في الخارج من إجمالي الودائع الموجودة لديها غير قادرة في القريب العاجل على معالجة أي من مشاكل المودعين في النظام المصرفي، بالنظر إلى ضآلتها مقارنة بحجم الودائع (3% فقط من قيمة الودائع)
تضخيم الكتلة النقديّة
في منتصف شهر تشرين الأوّل من العام 2019، لم يكن حجم السيولة المتداولة خارج المصرف المركزي بالعملة المحليّة أكثر من 6.59 ألف مليار ليرة، بينما بات حجم هذه السيولة يتجاوز اليوم مستوى 33.85 ألف مليار ليرة لبنانيّة. بمعنى آخر؛ تضاعف حجم هذه السيولة بأكثر من خمس مرّات خلال فترة لا تتجاوز السنة وخمسة أشهر، وهو ما يفسّر حجم الانهيار الكبير في سعر الصرف اليوم. مع العلم أنّ كلّ ضخ إضافي للسيولة بالليرة اللبنانيّة في السوق المحليّة، سرعان ما يتحوّل إلى طلب على العملات الأجنبيّة، إما للادّخار على المدى الطويل، أو للاستهلاك، مع اعتماد البلاد على البضائع والخدمات المستوردة بشكل أساسي.
استمر مصرف لبنان طوال الأشهر الماضية بخلق النقد لتمكين المصارف من دفع الودائع المترتبة عليها بالعملات الأجنبية وسدادها بالليرة اللبنانيّة، ولإقراض الدولة وتمويل إنفاقها، بغياب أي مصدر آخر للاقتراض
عمليًّا، لم يكن دفع ديون الدولة للمصارف السبب الوحيد لخلق النقد، فمصرف لبنان استمر طوال الأشهر الماضية بخلق النقد لتمكين المصارف من دفع الودائع المترتبة عليها بالعملات الأجنبية وسدادها بالليرة اللبنانيّة، كما استمر مصرف لبنان بخلق النقد لإقراض الدولة وتمويل إنفاقها، بغياب أي مصدر آخر للاقتراض
لكنّ خلق النقد من جهة، والسماح للمصارف التجاريّة بالتوسّع في عمليات سحب الدولارات من السوق تحت عنوان إعادة الرسملة من جهة أخرى، سمحا بخلق حالة من انعدام التوازن بين العرض والطلب. ولهذا السبب، شهدت الليرة طوال الأشهر الماضية حالة من الانهيار المتدرّج البطيء. أما الأهم، فهو أن انهيار الليرة كان نتيجة مباشرة لهذه المعالجات، التي صبّ معظمها في خانة حماية المصارف وكبار النافذين فيها، على حساب قيمة العملة المحليّة والقدرة الشرائيّة للبنانيين
في الخلاصة، لا يوجد اليوم ما يبشّر بتغيير مسار الانهيار الذي تشهده الليرة اللبنانيّة، خصوصًا أن جميع العوامل الضاغطة على سعر الصرف مستمرّة بنفس الاتجاه ونفس الوتيرة. أما الأهم، فهو أن غياب الخطة الحكوميّة، المطلوبة للتعامل مع الانهيار الحاصل، بعد سقوط الخطة السابقة، لا يسمح بالتفاؤل بمستقبل الأزمة اللبنانيّة. لا بل يمكن القول أن ما يفاقم سوداوية المشهد، هو غياب أي حكومة مكتملة الصلاحيات، بعد أن استقالت الحكومة السابقة منذ أكثر من ثمانية أشهر، دون أن تتشكل حكومة بسبب تنازع أقطاب السياسة المحليين على الحصص الوزاريّة. باختصار؛ وحتّى يتغيّر شيء ما في هذا المشهد، ستستمر البلاد في رحلتها نحو المجهول