في الوقت الذي تتزايد فيه التحذيرات الرسمية من أساليب الاحتيال المالي المبتكرة تبرز قصة عشرات المواطنين الذين وجدوا أنفسهم أسرى لشبكة وهم محكمة، وبطلها شخصية ترتدي ثوب الثقة، الذي استدرجهم من خلال وعدٍ براق بتحقيق ثروة سريعة من "تجارة الأجهزة الطبية" لينتهي بهم المطاف في كابوس تبخرت فيه مئات آلاف الدنانير.
بدأت القصة بوعدٍ مغرٍ حد عدم التصديق، يحمله رجلٌ عرف كيف يستغل مكانته المزدوجة؛ فهو الممرض في مهنته، والوجيه العشائري في محيطه الاجتماعي كان العرض بسيطاً ومغرياً "استثمارُ آمن يضمن ربحاً شهرياً ثابتاً بواقع 10% من رأس المال" وفي ظل الواقع الاقتصادي الضاغط كان هذا العرض بمثابة طوق نجاة للكثيرين وبوابة عبور نحو الفخ.
الوعود لم تكن عشوائية، بل كانت خطة محكمة لبناء المصداقية بدأت دائرة الاستثمار صغيرة ضمت في البداية سيدة وضعت مبلغ 6 آلاف دينار وكما وُعدت تماماً، بدأت الأرباح تتدفق على حسابها بانتظام شهرياً، هذا النجاح الملموس كان أفضل أداة تسويقية و سرعان ما تحولت هذه السيدة-دون أن تعلم-إلى جسر عبَرَ عليه ضحايا آخرون نحو الفخ حاملين معهم "تحويشة العمر".
وكانت أبرزهم صديقتها التي بعد أن رأت الأرباح تتحقق بعينها لم تتردد في تسليمه مبلغ 90 ألف دينار وتبعها آخرون بمبالغ متفاوتة حتى تشكلت شبكة من الضحايا يجمعهم اليوم مجموعة على تطبيق "واتساب" تضم 13 شخصاً، ضخوا معاً أكثر من نصف مليون دينار في مشروع لم يتبين له أثر، لقد كانت "الفترة الذهبية” قصيرة؛ لكنها كانت كافية لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال.
ثم وكما بدأت فجأة توقفت الأرباح فجأة فانقطعت التحويلات الشهرية، وصَمْت الهاتف الذي كان يوماً ما يبشر بالأرباح وبدأت مرحلة التهرب والمماطلة، فتحولت الطمأنينة إلى شك، والشك إلى يقين مرير بالخسارة.
وعندما تكاثفت الضغوطات خرج بروايته الدفاعية الأولى: "لقد تعرضت لعملية احتيال من شريكي الذي هرب بالأموال كلها!" ، لكن هذه الرواية لم تصمد طويلاً أمام تدقيق الضحايا فالسيدة التي خسرت 90 ألفاً، والتي حصلت على اسم الشريك المزعوم، اكتشفت بعد البحث عبر قنوات رسمية أن هذا "الشريك" ليس سوى شبح في قصة محبوكة ولا وجود له إلا في خيال من نسجها لإبعاد الشبهات عن نفسه، ومن هنا بدأت تتكشف خيوط أخرى؛ تكهنات بأن الأموال لم تدخل أصلاً في تجارة الأجهزة الطبية، بل ربما ضاعت في مغامرات تداول عالية المخاطر عبر الإنترنت، أو أنها استُخدمت ببساطة لتمويل نمط حياة باذخ وإعطاء أرباح الضحايا الأوائل من أموال الضحايا الجدد.
اليوم، المشهد يزداد تعقيداً حيث يقف الضحايا على أبواب المحاكم في انتظار عدالة تتأجل من جلسة إلى أخرى بينما يقف خصمهم في قفص الاتهام بهدوء مدركاً أنه حصّن نفسه قانونياً ببراعة، وتشير المعلومات إلى أنه استبق الأحداث وقام بنقل ملكية منزله وممتلكاته الأخرى إلى أفراد عائلته، ليقف أمام القانون "مفلساً" على الورق، بينما واقعه المعيشي يروي قصة مختلفة تماماً.
وبحسب خبراء قانونيين فإن مثل هذه الإجراءات رغم أنها تعكس نية مبيتة للتهرب من المسؤولية، إلا أنها تجعل استرداد الأموال أمراً شبه مستحيل.
تقول إحدى المتضررات بصوت يملؤه الإحباط: "لقد دُمرنا نفسياً ومادياً، وهو يعيش حياته وكأن شيئاً لم يكن أشعر أن القانون في صفه لأنه يعرف كيف يستغل ثغراته" وكشفت أنها "لا تستطيع مواجهة الإعلام والأشخاص في محيطها، وفقدت الأمل باستعادة أموالها”.
ما حدث مع ضحايا ليس حادثة فردية، بل نموذج يتكرر بأشكال مختلفة مستغلاً الثقة الاجتماعية لتحقيق مكاسب غير مشروعة ومع استمرار تأجيل البت في القضايا يظل الضحايا عالقين في دوامة الانتظار، فيما تتزايد الحاجة إلى تحرك قانوني ورقابي أسرع يحمي مدخرات المواطنين ويغلق الطريق أمام تكرار هذه الأساليب.