الراحل طارق مصاروه تغنى كثيراً بحياة الريف، وبالزراعة، وباللبن الجميد، وكم أعلن عن توقه وشوقه لتلك الأيام في العمود الصحفي الذي اشتهر به والذي كان يُنشر في صحيفة الرأي. وسألته يوماً عن دوافعه لذلك؟ فقال لا أدري ولكن أحسن تفسير سمعته كان من معالي عدنان أبو عوده أعجبني وأغضبني، وهو قوله » الذين يتغنون بأيام زمان، هدفهم الأساسي هو تأكيد المسافة التي باتت تفصلهم عن تلك الأيام الحلوة ببعدها والصعبة حين معايشتها». وقلت فعلاً تبدو هذه جملة قد يقولها أبو السعيد.
وقد شدا كثير من مغني مصر وكتابها بحياة الريف. وأذكر مرة أنني التقيت بالموسيقار محمد عبدالوهاب الذي استضافه أحد سفرائنا على العشاء في منزله في عاصمة أوروبية. وجلست إلى جانبه أحدثه عن أغانيه وألحانه وعلاقته بأحمد شوقي، وبأم كلثوم. وسُرَّ عبدالوهاب من معلوماتي عنه إلى أن سألته » لماذا غنيت أغنية محلاها عيشة الفلاح؟» فرفع حاجبيه متسائلاً » وليه لأ؟» فقلت له » غنتها أسمهان بصوتها لا بصورتها في فيلم ممنوع الحب»، ولكنك عدت وسجلتها بصوتك، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية كلماتها خادعة وتحض الفلاح المصري على الرضا بما?قسم له مهما قسا الدهر عليه. وبدأ وجه عبدالوهاب يحمرغضباً.
ولكني مضيت في القول » تقول الأغنية محلاها عيشة الفلاح، متهني وباله مرتاح، ويتمرغ على أرض براح، والخيمة الزرقا ساتراه. وآه آه آه» ويبدأ الكوبليه الثاني من الأغنية » دي الشكوى عمره ما قالهاش ان لاقى والا ما لاقاش». كيف يرضى بلا شيء؟ ألم تقرأ قصة «الحرام » للدكتور يوسف ادريس والتي يتحدث فيها عن أكثر من (2) مليون فلاح من «التراحيل » الذين لا يملكون قطميراً من المال ولا قيراطاً من الأرض. وتقول عنه أنه ينام على أرض براح. وغضب مني المطرب الكبير، وكاد يغادر بيت السفير لولا حكمة السفير في أعادته بشرط أن أعتذر له. ف?لت له » ما قلته لكم لا يغير من رأيي في قيمتكم الفنية الكبيرة».
كنا نقرأ قصص الفلاحين، وأخص بالذكر منها ما كتبه الدكتور اسحق موسى الحسيني في كتابة الطريف الذي نشرته دار المعارف ضمن سلسلة إقرأ بعنوان » مذكرات دجاجة». وارتبطت حياة الريف في فلسطين بأذهاننا من تلك القصة:
"محلا الدار والديره ونبع الفوار والزينات عالنبع يملن جرار.. هب الشوق ما عاد لي بالغربة قعود شو مشتاق يرويني بريق الفخار !». أغنية جميل النمري فعلاً جميلة ولكنها تمثل الرومانسية الحالمة. وقد كان أول من انتقد تلك الرومانسية في مصر هو الكاتب ابراهيم عبدالقادر المازني في كتابه » ابراهيم الكاتب» والجزء الثاني بعنوان » ابراهيم الثاني» والذي يتحدث عن كاتب ذهب ليؤلف كتاباً في قريته حيث الهدوء والسكينة وجمال الطبيعة وهرباً من ضجيج المدينة وضوضائها ولكنه يجد في خوار الجواميس وكثرة المقاطعين له من الفضوليين، وغياب ال?عامل الرسمي، ودسامة الطعام، وريح روث البقر، و وَرَص الدجاج، وقلة العادات الصحية، وسذاجة أهل الريف ما يعكر عليه صفو الحياة. ويجفف أفكاره، وكذلك فعل د. يوسف ادريس في قصة » الحرام» الذي رفع ذلك الغشاء الرقيق الجميل عن حياة الريف لنجد أناساً تعساء لا وظيفة لهم إلا جمع دودة القطن من الشفق حتى الغسق مقابل » ثلاثة تعريفة»، ورأس بصل ورغيف واحد للأكل. ويحكي قصة فتاة يصاب زوجها بحادث يقعده عن الحركة وعن اسعاد زوجته، فتخرج لتعمل، فتتعرض لاعتداء جنسي وتحمل. ويروي الكاتب مأساتها حتى الموت في سعيها للتستر على حملها، والايام بعملها.
لقد عمل في بدايات الدولة الأردنية أكثر من 75% من السكان إما في تربية الماشية، ومعظمها كان في البوادي والمناطق الرعوية أو شبه الجافة، أو في زراعة الحبوب من القمح والشعير وعلف الحيوانات خاصة الكرسنة. وتسمع من يقول لك أن الأردن كان ينتج ما يكفيه من القمح. هذا صحيح ولكن حجم الانتاج حتى في السنوات الخصاب لم يزد عن (70) ألف طن من القمح القاسي، كانت تكفي للاستهلاك ولتصدير الفائض إلى ايطاليا عبر مواني بيروت وفلسطين. انتاجنا من القمح تراجع لأسباب كثيرة، ولكن الرومانسية العالقة به ما تزال في الأذهان وأذكر في عَهْد ر?يس الوزراء أحمد عبيدات أن كلف الدكتور فايز الطراونة، المسشتار الاقتصادي بالرئاسة آنذاك–أن يتولى الإشراف على مشروع لزراعة القمح في سهل الصوان.
وأُنشئت عدة مزارع كبيرة بآلاف الدونمات، والتي تبنت التكنولوجيا الحديثة في انتاج القمح الطري (مش بلدي)، والذي يُرْوى بالرشاشات الأوتوماتيكية الكبيرة، ويحصد بواسطة الحاصدات الميكانيكية، وتجمع «بالات» القصب حيث تُخزن في مستودعات حديثة حتى تصدر علفاً.
ولكن معظم هذه المشروعات فَشل في تحقيق أرباح، مما اضطر أصحابها إما أن يعتزلوا المشروع بالكامل ويعيدوا الأرض المستأجرة للحكومة، أو ينوعوا الانتاج نحو الأعلاف وبعض أنواع النباتات القابلة للأكل أو إلى انتاج البطاطا والبندورة.
وهكذا فقد القمح رومانسيته. ولا أنسى أنني لما كنت أقدم برنامج » الأردن الاقتصادي» على شاشة التلفزيون الأردني أن صورت حلقة عن انتاج القمح وأنا واقف وسط السنابل الخضراء، وفوجئت بحجم الرسائل التي تلقيتها من المشاهدين في الأردن وسوريا وفلسطين، إعجاباً بالحلقة وإلحاحاً على ضرورة العودة إلى الزراعة والقمح حتى لا نبقى عالة على الآخرين في لقمة العيش.
وقد شغل الوطن العربي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بالحديث عن الزراعة. وركز الوطن العربي على الدول ذات الأراضي والمياه الفائضة. ونالت السودان النصيب الوافر من تلك الدراسات، واستثمر كثير من العرب في السودان على أساس أن فيها مئات الملايين من الهكتارات الصالحة للزراعة. وفيها مياه النيلين الأبيض والأزرق، عدا عن المياة الجوفية.
ولكن تبين أن هذه أيضاً كانت نظرة رومانسية، فالسودان عانى من نقص كبير في الخدمات والطرق ورأس المال الاجتماعي. ومن ناحية أخرى كانت القبائل تتدخل في المشروعات الزراعية وتفرض–كما قيل- أت?وات على المستثمرين. وقد صدر في الثمانينات من العقد الماضي دراسة عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بينت فيه أسباب فشل الاستثمارات العربية الزراعية في السودان والمشروعات لتربية الماشية في الصومال.
وفي الوقت الذي تقاعست فيه الدول العربية عن تبني مشروع قومي لتعزيز الأمن الغذائي العربي، كانت اسرائيل تعزز وجودها في بعض الدول ونحن عنها غافلون. ولاسرائيل اليد الطولى في إبعاد بعض الدول الافريقية عن الدول العربية إما بحجة أن العرب مصدرون للإرهاب (حركة الشباب وبوكو حرام)، أو بحجة أنها دول غنية تبخل على افريقيا وحتى الدول الاسلامية منها بالتمويل، ولكنا لم نأبه بهذا الأمر كثيراً.
وبسبب رومانسية النظرة تقسمت الصومال إلى أشلاء ممزقة. و زرتها عام 2016 حاملاً رسالة ملكية إلى رئيس الجمهورية تدعوه إلى حضور مؤتمر القمة العربية. وقد استغرق الوقت للوصول إلى القصر الجمهوري من الفندق المتواضع جداً حوالي (45) دقيقة لأن الموكب أوقف حوالي عشر مرات من قبل قوات الأمن التابعة للاتحاد الافريقي. وكل موضع أمني كان تابعاً لبلد مختلف عن الذي قبله أو بعده، وكل واحد كان مصمماً على السؤال والاستفسار تأكيداً لحضوره ووجوده.
أما السودان الشقيقة، فقد عانى ما عانى من الانقلابات والويلات. وانتهى به المطاف بخسارة الجنوب (حوالي620 ألف كم مربع) لدولة جنوب السودان. وما تزال الصراعات قائمة في منطقة غرب السودان (دارفور)، وهنالك مشاكل أخرى شرق السودان حيث توجد حركات تنادي بالاستقلال، وليس الكثير الذي يذكر عن هذه المنطقة في الاعلام العربي والغربي.
والآن أتت مشكلة سد النهضة، حيث يسيطر كل من الطرفين الاثيوبي من ناحية، ومصر والسودان من ناحية أخرى على موقفه المضاد تماماً للطرف الآخر. فاثيوبيا تريد حلاً ضمن الاتحاد الافريقي، وبموجب اتفاقات جديدة لا تعترف بالاتفاقات السابقة. أما مصر والسودان فيصران على أن هذه قضية دولية تتطلب تدخل أطراف دولية خاصة منظمة الأمم المتحدة، وعلى ضرورة التقيد باتفاقية تقسيم المياه التي وضعها البريطانيون قبل أكثر من مائة عام.
لقد تبين أن كلام السرايا في الامكانات الزراعية في السودان غيّر كلام الواقع المعاش. وخسرنا في السنوات العشر الأخيرة الامكانات الهائلة في سوريا والعراق، في ظل الواقع السياسي والأمني المعاش في كليهما، ونضوب مياه نهري دجلة والفرات بسبب » سد أتاتورك » (حوالي 22 سداً صغيراً) ولذلك، فإن النزاع على المياه مع تركيا ممكن إذا لم تجد الأطراف الثلاثة حلولاً منطقية ومقبولة للتعامل مع هذه المشكلة.
والأردن يعاني من شح المياه بسبب ضخ مصادر وروافد نهر الأردن من قبل الدول المطلة عليه قبلنا، وهذا يشكل مصدراً مقيداً لامكانيات الزراعات الحقلية في الأردن. ونجاح القمح يعتمد على مياه الري علماً أن حاجتنا السنوية تفوق المليون طن. ولهذا، فإن الأردن بحاجة إلى مزيج من الرومانسية التي تقتضي العودة للزراعة والاصرار على ضرورة الاقتراب من تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذا لا يتحقق بانتاج كل ما تحتاج إليه لان هذا غير ممكن على الاطلاق، فنحن لن نتمكن من انتاج الأرز، والسمسم، والسكر، والقمح بالكميات التي نحتاجها، ولكننا قادرون?على انتاج فوائض في محاصيل أخرى تمكننا إما من بيعها للخارج أو تحويلها إلى سلع مصنعه ذات قيمة مضافة عالية توفر لنا الدخل الذي يمكننا من تمويل شراء مالا نستطيع انتاجه.
أيام مرت على الأردن، انتجنا فيها تبغاً بكميات كبيرة. وكان في وزارة المالية صندوق لدعم زراعة التبغ. وفرضنا على شركات انتاج السجائر شراء التبغ الأردني حتى تبين لنا أن هذا هو أسوأ استثمار. فعشبة الهالوك الطفيلية التي تعيش إلى جانب التبغ تهلك قيمة التربة وتنضبها من الأملاح الضرورية لزراعة نباتات أخرى. التبغ و » الحسنبكي» والسجائر الملفوفة بالهيشة كانت أيضاً جزءاً من الرومانسية التي يجب أن نتخلى عنها.
والمطلوب الان رومانسية مستقبلية تدعونا إلى انتاج مفتخر، ودورة زراعية منتجة، وتصنيع زراعي متميز، وزراعة تعاقدية، وابحاث متطورة، وطرق موفره لاستخدام المياه، والتوسع في التخزين، وتربية الأغنام بطرق حديثة، وتربية السمك، وغيره من مصادر اللحوم. والعودة لزراعة البقوليات كالعدس والحمص والفاصوليا، والفواكه ذات القيمة السوقية العالية. نحن بحاجة إلى اطفاء الرومانسية الغارقة في الماضي، واضفاء رومانسية مستقبلية على الزراعة إذا كنا نسعى نحو الاكتفاء الذاتي في غذائنا.