أهرب بالعادة لقراءة العلم والتاريخ والانثربولوجيا ولها القدرة ان تأخذني من هموم السياسة اليومية وتعالجني من إحباطاتها. وأمس انهيت قراءة كتاب جميل عن الحقبة الذهبية للعلوم العربية وهو موجه للغربيين والمؤلف هو جيم الخليلي بروفيسور الفيزياء النظرية العراقي – البريطاني من اصول فارسية والحاصل على جوائز خصوصا في تقديم العلوم بلغة شيقة للعامّة. وهو اعاد انعاش الذاكرة بإنجازات العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية من زمن المأمون وحركة الترجمة وحتى الانحطاط وفي النهاية اجتياح المغول لبغداد وقذف نفائس بيت الحكمة من الكتب في دجلة وبعضها لحسن الحظ كان قد انتقل أو تم نسخه في الاندلس ليعبر لاحقا الى اوروبا ويترجم ويكون المصدر الرئيس أيضا للعلوم اليونانية المترجمة الى العربية وتبدأ من هناك نهضة اوربا العلمية التي لن تلقى مصير سابقاتها بل ستتقدم بلا انقطاع وتغير حركة التاريخ مرة والى الأبد.
لقد ظلّت حركة التاريخ دائرية. كانت الحضارات تسود وتبيد. والمراكز الحضارية تظهر في منطقة وتنقطع في اخرى وتختفي معها انجازاتها. كان البشر يحققون معارف ويصنعون ابتكارات وتزدهر مدنهم بالاقتصاد وبالعلماء والادباء وتمتلئ المكتبات بالمؤلفات (المنسوخة باليد على الجلد) ثم يحدث ان يأتي أسوأ الحكام فترجع المجتمعات القهقري أو تنهار الدول باجتياحات بربرية او حروب اهلية أو كوارث طبيعية أوأوبئة فتاكة فتهجر المدن وتخرب المجتمعات وتختفي الانجازات ولا يبقى منها اثر.
وبالتوازي او بعد قرون يظهر في مكان آخر ازدهار جديد يبدأ من الصفر ويصنع معارف أصلية او منقولة لكن محكوم عليها بالزوال والاختفاء حالما ينهار التكوين السياسي الذي وفر الاستقرار والبيئة الملائمة للازدهار.
هكذا كان التاريخ، ومؤخرا تم اكتشاف بعض الآلات المبتكرة من زمن الرومان لنقل الحركة واستخدام المياه لم تظهر ولم تستخدم في أي زمان أو مكان آخر أي ان هذا الابتكار ولد ومات في المكان الذي ظهر فيها وهذا يحدث في ميدان عملي وفني يحتاجه الناس في حياتهم اليومية فما بالك بالعلوم النظرية التي تبقى شأن المفكرين والعلماء وتنفصل مسافة عن ضروراتها العملية.
خذ مثلا في علوم الفلك وأعلم أن مفتي الديار السعودية المرحوم ابن باز ظلّ يصرّ حتى وفاته يسخر من إدعاء علماء الغرب بكرويتها مع أن عالما مسلما ( البيروني) من القرن التاسع الميلادي لم يقرر كروية الأرض فحسب بل تمكن من قياس محيط هذه الكرة الأرضية بدقة أذهلت علماء اليوم لدقة قربها من القياس الفعلي الحديث.
وهو استخدم حيلة عبقرية مدهشة وان كانت إجراءها لا يحتاج لأكثر من مساح مبتدىء لكنها تستخدم الرياضيات وهندسة المثلثات وزاوية انزياح الضوء بين موقعين على محيط الدائرة التي هي سطح الأرض. وهذا الاكتشاف مع بقية العلوم ذهب طي النسيان حتى اعيد اكتشافها وترجمتها بعد قرون في اوروبا.
لكن هذه المره ستحدث انعطافة تأخذ العالم كله في اتجاه واحد هو التقدم بلا انقطاع. من عصر النهضة الى عصر التنوير الى الاكتشافات العلمية الى العصر الصناعي اصبح التقدم ثابتا تراكميا متصلا. اكتشاف الطباعة وصناعة الكتب ادى لتوثيق وتعميم المعارف على الجميع وتعديلها والبناء عليها وتجاوزها.
ولم يكن مصير الآلة البخارية مثل ساعة هارون الرشيد بل هي تعممت وتطورت مثل آلة الطباعة وحتى الوصول للكومبيوتر والانترنت الذي جعل كل معلومة تلف الكرة الأرضية في ثوان. توحدت المعارف والمنهجية واصبح العالم نهائيا حضارة واحدة متصلة وآخر نسخة من هاتف ذكي تنتجه سامسونج في كوريا يستخدم في وقت واحد في نيويورك كما في أي قرية نائية الصعيد.
صحيح أن لكل منهم ثقافة مختلفة ويمكن بل والأجمل ان لا يتنمط البشر في نسق واحد وتبقى التعددية والخصوصيات الثقافية والإثنية للأمم والشعوب والمجتمعات حتى اصغرها عددا.