من دفءِ صوتِكَ تعلّمْنا نسجَ الكلماتِ الطبيبةِ التي تفعلُ فعلَ الترياقِ في نفسِ كلِّ من أنهكَتْه أوجاعُ القسوةِ والوحدةِ والاغترابِ. وغزلْنا منها أوشحةً للقلوبِ كلّما ارتجفَت متأرجحة بين الـ «لا» و الـ «نعم'
من طيبِ قسماتِك الأردنيّةِ السّمحةِ وضعْنا مقاييسَ الجمالِ التي تقودها الرّوحُ في ثورةٍ تجتاحُ الجسدَ والملبسَ والمنصبَ، وتُنصّبُ الجوهرَ ملكًا على عرشِ الجمال.
من كلماتِك صنعْنا دروعًا، وشيّدنا أسوارًا وقلاعًا منيعةً حولَ أرواحِنا وضمائرِنا؛ كي نبقى كما ربّيْتنا، وكما عهدتَنا الأردنيّينَ اليعربيّينَ الذين يجدون أنفاسَهم «صاعدةً مع القسّامِ في أحراشِ يعبد»، يقاسمونَهُ «سنواتِ الصّبر والرّضا»، ويوثقّون معه «حماسةَ الشّهداء» في «أوراقِك العربيّة». ومع أهلِ «بغدادَ»، نواسيهم بأنْ «لا غالبَ إلّا الله»، وإن طال بهم الشقاء، «فالوردُ رفيقُ الرّماح». ومع أهلِ الشامِ إذ «يعبرون النهر إلى الحريّةِ»، ويردّدون «مقام الياسمين»، بعد أن «صحبناهم حين بكى الصحب» وبكينا معهم؛ إذ ار?قى الأحبّة إلى «منازل الأرجوان».
عرفناك صغارًا، وأنت الكبير دائمًا، وكنّا نظنُّ أنّ الزمنَ كفيلٌ بأنْ يجعلَنا نكبرُ، لكنّنا كلّما التقيناكَ عدْنا صغارًا في رحابِ حضرتِك، وما استشعرْنا يومًا عظمةً في ذواتِنا إلّا ونحنُ ننتسبُ إلى حلقاتِ علمِك ودوائرِ محبّتِك.
نتتبّعُ خطاكَ الأنيسةَ، نقتدي بتعابيرِ يديْك، ونتأسّى بملامحِك، ولا نُلام في حبٍّ كنتَ مَن غرسَهُ ونمّاهُ ورعاهُ بأهدابِ العينِ الرفيقةِ التي كانت في كثيرٍ من الأحيانِ بوّابتَنا إلى معالمِ قلبِك الكبيرِ الذي احتضنَ العروبةَ والإنسانيّةَ والحياةَ.
حين نلتقيكَ يحدثُ ما لا يحدثُ في الحكاياتِ، ولا يُنظمُ في دواوين الشعرِ، ولا حتّى في «رونقِ المتنبّي العجيبِ»، كأنّما يعودُ كلُّ شيءٍ فينا إلى نصابِه، تعاودُ نظمَنا من غير أن تصدحَ بأيّ أمرٍ، تضعُ نقاطَنا فوقَ الحروفِ المُهملة، تُصوّبُ حواراتِنا مع أنفسِنا كمَن يُرجع نهرًا خارجًا إلى مجراهُ، وتُولّدُ فينا ألفَ «قصيدةٍ» مضمّخةٍ «بدماءِ المدائن» كنّا نظنُّها قد وئدَتْ منذُ زمنٍ بعيدٍ.
عرفناك أستاذًا وعميدًا ووزيرًا ورئيسًا، و...، و...، لكنّكَ في كلّ ذلكَ كنْتَ أنتَ، الرجلَ الذي لا يقايضُ بالأوطانِ، ولا يساومُ في المبادئِ، عملةً نادرةً فريدةً بوجهٍ واحدٍ أنّى دارَت بها الأيّامُ وتقلّبَتْ عليها الظروفُ.
يا سيّدي، أيّها الكركيّ الجميل دائمًا، كلماتي هذهِ «رجعُ صهيلٍ» موثّقٍ في ورقةٍ من «دفاترِ الوطنِ» وأنا فيها محضُ «رجلٍ يمانيٍّ لم يتحوّلْ» بقيَ على عهدِ المحبّةِ لروحِك وبوحِك، لا يزالُ متعطّشًا لوهجِ هالتِك، يلتمسُ منها النورَ والدّفءَ ومؤونةَ الحياةِ.