لم تطفئ معاهدات «السلام» بين عدد من الدول العربية والكيان الصهيوني أشواق الجماهير العربية المتطلعة دوماً والمتوارثة من جيل الى جيل نحو فلسطين السليبة من الحد إلى الحد.
خاض العرب والإسرائيليون مواجهات منذ ما يزيد على قرن، منها خمس حروب كبرى وعشرات الاشتباكات المسلحة التي كان العدو هو من يبدأها، وكانت الحصيلة النهائية لكل هذه المواجهات في صالح العدو، باستثناء معارك معينة انتصر فيها الجانب العربي مثل معركة الكرامة التي خاضها ببسالة الجيش العربي الأردني عام 1968 ومعارك انقاذ الضفة الغربية والقدس خلال حرب عام 1948.
ومنذ ما قبل عام 1948 وهو عام انشاء دولة الكيان الصهيوني على جزء من ارض فلسطين وما بعده، لم يتوقف الجانبان عن التسلح حيث وضع كل جانب لنفسه هدفاً يتناقض تماماً مع هدف الجانب الآخر.
وبالرغم من كل الحروب التي تلت الحرب المفصلية عام 1948 وبالرغم من اتفاقيات «السلام» التي ابرمت تباعا بين الجانبين بعد حرب عام 1973 والتي كانت النية مبيتة قبل خوضها من قبل السادات تحديداً، بأن تكون ناتجة لعقد اتفاقية سلام مع اسرائيل «كامب ديفيد» مما قاد لاحقاً لعقد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة بين كل من اسرائيل ومنظمة التحريرالفلسطينية والأردن، وصولاً إلى اتفاقيات التطبيع الاخيرة بين بعض دول الخليج العربي واسرائيل، إلا أن كل تلك الاتفاقيات كانت تسقط بسرعة البرق بعد كل مواجهة جديدة بين العدو الاسرائيلي والجماهير?العربية الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة والجماهير العربية على تخوم فلسطين.
العدوان الاخير على غزَّة وما كشفه من قوة مفاجئة وغير متوقعة للمقاومة الفلسطينية المتمثلة بحماس والجهاد الإسلامي أعاد إلى الصدارة تمسك الأُمَّة العربية بتحرير فلسطين كلها، كما احيا أملاً كاد ان يذوي بامكانية التحرير، وأكد أن التفوق العسكري للعدو ليس قدراً محتوماً لا راد له، بعد أن اثبتت صواريخ المقاومة أن الإرادة عندما تتوفر تغير موازين الحسم وتبطل ميزة حداثة السلاح التي تفقد فعاليتها عندما تكون بأيدٍ مرتجفة.
إن كسر نظرية تفوق العدو هو أهم درس ومكسب من وجهة نظري اسفرت عنه نتائج العدوان الإسرائيلي على غزَّة، وهو مكسب يستحق ما هو ابعد من مجرد الفرح والاحساس بالنشوة، إذ يجب البناء عليه وتطوير الادوات التي بفضلها تحقق.
هنا نتحدث عن ترجمة عملية لرغبات الجماهير العربية والفلسطينية بالتحرير، وذلك بتوفير الآليات التي تنقلها من حالة التمني إلى حالة الفعل الحقيقي، ما يعني البدء بإعداد الأرضيات والبيئات الحاضنة للجماهير العربية لتصبح قواعد قادرة على ارسال مقاتلين يعبرون الحدود بدلاً من الاكتفاء بحشد المتظاهرين على الحدود، وهذا يتطلب ضمن أشياء كثيرة ترسيخ عقيدة التحرير من جديد وقبلها عقيدة الدفاع عن النفس بنفس ادوات الاعتداء عليها طالما أن العدو لم يكف عن الاعلان عن نيته في التوسع والاستيلاء على اراضي الدول العربية المجاورة، ليُ?حِّل اليها ما تبقى من الشعب الفلسطيني لانه ما زال يريد الارض الفلسطينية دون الفلسطينيين.
إن أكثر ما يضر العرب ويهدد وجودهم هو الارتهان الى اتفاقيات يسهل تمزيق أوراقها، عندما يقرر عدوهم تنفيذ خطته لالتهام أراضيهم.
هذه حقائق الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني الذي لم يُغيِّر أطماعه باحتلال المزيد من بلدان أُمَّة العرب، وللنجاة من هذه الأطماع لا بد من ان يتغير سلوك العرب انظمة وشعوبا بالاكثار من العمل والاقلال من الدعاء والادعاء.
فنحن بحاجة لا تحتمل التأجيل الى خطط يشارك الكل في وضعها وتحمّل نتائجها لنتخلص من عادة التلاوم بعد كل فشل والاحتكار بعد كل نجاح على قلة ما ننجح ثم يتوجب على الجميع التضحية بالتنازل عن حياة الرفاه والافراط بالاستهلاك الذي حوَّل العرب إلى ملتهمين مترهلين يركضون خلف اغراءات واوهام جردتهم من كل الصفات إلا صفة الخانعين العاجزين ليس امامهم سوى الركض والجري لاهثين من سراب الى سراب الى خراب.
ان الامم التي تقدم رفاهيتها على كرامتها تخسر الاثنتين معاً، هكذا علَّمنا التاريخ وللأسف كنا ممن يثبتون هذه النظرية في حقب كثيرة، لكن الخروج من هذه الحالة ليس مستحيلاً، رغم صعوبته.
لقد اعطتنا المقاومة في غزَّة دروساً وفرصاً للاستفادة منها في الدفاع عن النفس، فهل نستفيد منها أم نهدرها، ونمضي في لغونا وعبثنا اللذين يباعدان بيننا وبين الأرض الفلسطينية المحتلة، ويقربان عدونا من أرضنا المُهدَّدة بالاحتلال؟.