كان المفروض ان يكون احتفالنا ببلوغ عمر دولتنا مئة عام، احتفالا بالمعنى الكامل للكلمة، احتفال يبعث بالنفس الاعتزاز والنشوة، يبعث الامل بغد يستند الى ماضي مليء بالانجاز والرجولة والفخار.
لكننا نحتفل وفي الحلق غصة وفي القلب وجع، وهل تكون بهجة لموجوع او حزين؟.
كنا نتغنى ببناء وطن كامل الاركان، قوي البنيان، لا تهزه ريح فأصبحنا مثل اوراق شجر ايلول تتلاعب بنا النسمات ذات اليمين وذات الشمال، كنا نتغنى بإعلام رجولي لا يعرف القائمون عليه الميوعة، كنا نتغنى بالحقيقة لا بالوهم، كنا نتغنى بوطن فيه ميناء ومطار وشركات ملك ابنائه وجامعات مستقلة نهجا ومنهاجا اساتذة وطلابا، كنا نتغنى بوطن لا يجرؤ الفاسدون فيه على الظهور او الجلوس بمجالس الرجال، لأنهم كانوا قلة منبوذين من اهلهم قبل المجتمع، وصرنا نراهم يتقدمون الصفوف والجاهات فيما الرجال الانقياء يجلسون بالمقاعد الخلفية.
كانت انجازات آبائنا مصدر فرحنا واحتفالنا، عندما يأتي يوم الاستقلال، وكان شعارنا الدائم عدم التفريط بما نملك، واليوم تحل ذكرى مئوية دولتنا ونحن نبكي على ما كنا نملك.
يا الله كم كانت الانجازات كثيرة والادعاءات قليلة، وكيف انقلبت الآية رأساً على عقب، فكان لا بد من ان ننكشف عندما تحين لحظة الحقيقة، ونكتشف اننا كنا مخدوعين ومخادعين اليوم "نحتفل" باطفاء شمعة مئة عام كانت كلها نورا ووهجا ونضيء شمعة مئة جديدة بالكاد تضيء لنا نصف يومنا ونصف غدنا.
سنة السياسة من سنة الحياة، فيها صعود ونزول وألق وأفول، ولسنا وحدنا الذين مالت سفينتنا، لكنها وبلطف الله لم تغرق بعد وما زال بامكاننا تصويب الدفة نحو المسار الصحيح وسد الثقوب التي احدثها العابثون الخونة.
لقد اورثنا الآباء دولة كاملة، وواجبنا ان نورث من يأتي بعدنا دولة لا نواقص فيها، وحتى نحقق شرف الذكر في دفتر الوطن، بأسطر لا تلعننا لا بد ان نبدأ ونتعلم الدروس مما حصل ويحصل.
وسط كل هذا الاحباط والاحساس بالخسارة، لم يكن ينقصنا سوى قلق وخوف من نوع جديد، اخطر من كل الفشل الذي اقترفناه وان كان نتيجة له، هذا الخوف يتعلق بمستقبل البلد ارضا وشعبا وكيانا، عشناه خلال الاسبوع الماضي، وما زلنا نعيش ارتداداته، فعندما يتصل الامر بدعائم الحكم، لا يعود الحديث عن بيع وشراء، ولا عن خسارة هنا او ربح هناك، بل عن وطن يكون اولا يكون، ونكون معه أو لا نكون.
لقد كنا خلال موجات هدير الشوارع العربية، بعيدين عن الشريط العاجل للفضائيات والفضائحيات، وكنا سعداء لان احدا لم يكن يرى غسيلنا، لكننا لم ندرك ان الملابس النظيفة هي فقط ما يستر عوراتنا، وان اخفاء الاوساخ لا ينهي المشاكل التي لا بد ان تظهر يوما للعيان.
لا يجوز لنا ان نستمر في المكابرة والانكار، ولا يجوز ان نظل نقصي الناصحين المخلصين ونقرب الفاسدين المنافقين الذين كانوا سببا في كل ما وصلنا اليه، وسبابا على بلدنا كلما ظهروا بوجوههم الكالحة يتحدثون عن الاخلاص للوطن والولاء للعرش، وهم الذين نهبوا الوطن وخانوا العرش وسحبوا وما زالوا يسحبون من رصيده لدى الشعب، وقديماً قيل صديقك من صَدقَك وليس من صَدّقك.
نريد دولة لا تستمد قوتها وشرعيتها من عظمة الراحلين فقط، لان العظمة لا تُجيَّر، بل دولة تتمسك بالرجال الذين هم عون وعضد للنظام وان خالفوه فلمصلحة الوطن وليس اشباه رجال يحرِّكون رؤوسهم مثل بندول الساعة يتلمسون مصلحتهم ولا يعبأون بمصالح الوطن طالما انهم يعبأون جيوبهم، هؤلاء يرفضهم الشعب وان كان اولهم خلف القضبان الآن، فان جُلَّهم لا زالوا طلقاء يريد الشعب محاكمتهم لأنهم سبب البلاء والخراب.
لولا الجيش الذي ما زال على طهره واخلاصه، وتمسكه بتراب الاردن، لكان احتفالنا بلا أي امل، فالجيش كان اول بشائر النصر وما زال، واول بشائر القوة وما زال، والجيش ابونا وامنا، ودرعنا الذي يحمينا، لكل واحد من افراده ننحني إجلالاً، ونقبل الهامات العالية والسواعد القوية، فهم الأجدر بالتهنئة والمباركة، بارك الله فيهم.