2024-11-27 - الأربعاء
00:00:00

آراء و مقالات

البحث فـي الجذور: حتى لا نحمّل الأشياء أكثر مما تحتمل

{clean_title}
د.رجائي المعشر
صوت عمان :  


حادثة مستشفى السلط والحوادث الشبيهة الأليمة الأخرى تضعنا أمام حقائق كثيرة. نتفق جميعنا على أن الاهمال والفساد الإداري وتعيين الرجل غير المناسب والترهل الإداري واللامبالاة في العمل والجشع والطمع كلها كانت السبب المباشر لهذه الحوادث الأليمة، ولكن القضية ليست قضية إدارية فحسب بل هي قضية اجتماعية تربوية تراكمت عناصرها عبر السنين.

 
كانت البداية عندما قام نظامنا التربوي على توحيد الكتاب المدرسي بالإضافة إلى توحيد المناهج واعتمد اسلوب التلقين وحفظ المعلومات ثم إعادتها في الامتحان دون فهمها وتغييب التفكير والقدرة على حل المشكلات والتركيز على الكمية على حساب النوعية، وأهمل نظامنا التربوي التربية الوطنية والفهم العميق لمبادئ الدولة الأردنية وقيمها ودستورها ومعرفة تاريخها الذي يجهله مع الأسف معظم طلابنا. وتاريخ رجالها الأوائل الذي أرسو قواعد عشائرية واجتماعية أصيلة كانت مجال اعتزاز وفخر الأردنيين عبر السنين.

 
والبعد الاجتماعي يتمثل بجهل البعض أو فهمهم الخاطئ للعادات العشائرية وقيمها، فنشاهد اليوم ظاهرة غريبة على تقاليدنا، إذ يقوم بعض أبناء العشيرة بمناصرة المخطئ من أبنائها في جميع الأوقات وفي جميع الأحوال ويصدرون البيانات باسم العشيرة بدلا من أسمائهم فقط فيتكون انطباع عام بأن العشيرة تناصر أبناءها على الحكومة ومؤسساتها وحتى على القضاء النزيه وتضع الشروط على المحاكم، فظن البعض أن جميع أبناء العشيرة يغلبون مصلحة عشيرتهم على المصلحة الوطنية العليا وأن افرادها يظنون أنفسهم فوق القانون وهذا حتماً انطباع خاطئ.

 
وانعدام الثقة بين المواطن والمؤسسات الدستورية باستثناء مؤسسة العرش والأجهزة الأمنية والعسكرية، كونت لدى البعض قناعة بأن أقصر الطرق للحصول على حق أو غرض من الحكومة هو طريق الواسطة والمحسوبية وصاروا يعتقدون أن الانتماء العشائري أو العائلي أو المناطقي ضرورة لتقوية حجتهم بهدف الحصول على حاجاتهم أو حقهم.

 
كان القضاء العشائري سابقاً هو أقصر الطرق وأفضلها لتسوية القضايا العالقة بين الناس، واليوم تتم تسوية النزاعات بين المتخاصمين عن طريق المحاكم النظامية ومع ذلك بقيت هناك عادات أساسها عشائري تهدف إلى إعادة الألفة بين الناس وإصلاح ذات البين، وقد أرست الأجيال السابقة قواعد وتقاليد وأصولاً عشائرية يلتزم بها الجميع، وفي معظم الأحيان كان يضرب المثل بالعشائر التي كانت تصفح وتغفر وتسامح، واليوم نجد أن بعض أفراد المجتمع من أبناء العشائر وغيرهم أصبحوا يغالون في تطبيق هذه العادات حتى أصبحت سبباً من أسباب العنف المجتمعي ?مبرراً له كما أنها أصبحت سبباً في إطالة أمد النزاعات والخلافات بدلاً من حلها.

 
فأين نحن اليوم من التقاليد العشائرية التي أرسى قواعدها أجدادنا عبر تاريخهم المديد أين نحن من موضوع الجلوة مثلاً ومن القاعدة التي أرساها المرحوم الشيخ سعود القاضي بأن الجلوة تجوز على بيت الشعر ولا تجوز على بيت الحجر ونحن نرى الآلاف الذين نزحوا عن منازلهم بسبب الجلوة ولمدة طويلة تصل إلى بضع سنين، وأين نحن من جسور الخير التي بناها أبناء عشائرنا على مدى السنين لتشكل أسبقية تعتمد في حل النزاعات ونرى اليوم أن جسوراً تبنى من بعض أبناء العائلات والعشائر الذين لا يفهمون القيم والتقاليد العشائرية أو يتجاهلونها فتزيد?من الخلاف والتفرقة بين الناس، وأين نحن من ما تم التوافق عليه بأن العطوة واجبة في حالتي القتل وهتك العرض فقط، أما اليوم فنجد أنه حتى خلاف بين طفلين أصبح يستدعي أخذ عطوة.

 
لم تكن العشيرة يوماً حزباً سياسياً بل وحدة اجتماعية ضرورية لغايات التكافل الاجتماعي والتضامن لخير أبنائها، وتاريخنا يشهد أنه في الخمسينات من القرن الماضي كان تدرج أسماء ممثلي العشيرة في مجلس النواب في قوائم نواب الحزب الذين ينتمون إليه.

 
لقد أصبحت العشيرة والعشائرية اليوم كما يقول المثل «بشكير زفر» يمسح بها كل شيء خاطئ في تصرفاتنا الاجتماعية ويعزوا لها البعض أسباب مشاكلنا السياسية والاجتماعية وعدم احترام القانون وذلك لأن فئة صغيرة من ابناء المجتمع وليس أبناء العشائر فقط، تناصر أبنها المخطئ على غير حق فينعكس تصرفهم هذا على العائلة بمجملها ويتكون الانطباع الخاطئ عن العشيرة والعائلة والعشائرية وتقاليدها وقيمها.

 
العائلة والعشيرة ركن أساسي في تركيبة المجتمع الأردني نعتز بها ونفخر بالانتماء إليها نقوى بها إن كنا أصحاب حق ونضعف معها عندما تنتصر للمخطئ أو المسيء من أبنائنا على غير وجه حق.

 
وظاهرة أخرى تجلت عند حدوث الحوادث الأليمة الأخرى تمثلت في استخدام فئة من الناس هذه الحوادث لجلد الأردن وإنكار انجازاته فهناك من أعلن بعد حادثة مستشفى السلط مثلاً عن إنهيار النظام الصحي وبدأ بالهجوم على هذا القطاع الحيوي الهام، ومن هذه الفئة العديد من الذين كانوا قبل أيام من الحادثة يتغنون بالجيش الأبيض وشهدائه ويفاخرون بجهدهم النبيل في معالجة حالات الوباء في المستشفيات الحكومية والخاصة وعلى قدرة المستشفيات الاستيعابية، لا أدعي أن نظامنا الصحي مثالي أو أنه وصل إلى الكمال ولكن علينا أن نتقي الله فيما نقول.

 
والظاهرة الأخرى هي استغلال هذه الحوادث الأليمة لخدمة أجندات شخصية فبدأ البعض يستعرض قدراته ومؤهلاته وخبراته ليذكر بنفسه للحصول على موقع متقدم في القطاع العام وآخرون يستغلون هذه الحوادث الأليمة لخدمة مصالح ضيقة أو أجندات خارجية تستهدف أمن الأردن واستقراره بسبب مواقفه المبدئية وخاصة من قضية فلسطين قضيته الأولى والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية وحراكه المستمر في بناء التضامن العربي وحل قضايا امته العربية بدون التدخل الأجنبي.

 
ومن غرائب الصدف أنه كلما اتخذ الأردن موقفاً لا يرضي أعدائه يحدث حدث أليم يعكر صفو أجوائه ويبدأ المرتزقة من عملاء الأجندات الخارجية بالتحريض على الأردن وقيادته وشعبه.

 
في الديمقراطيات العريقة عندما تقع حوادث أليمة يقف الشعب والحكومة وجميع مؤسسات القطاع العام والخاص صفاً واحداً لمعالجة الآثار المترتبة عن هذا الحادث ومواساة أهالي ضحاياه، وعند استكمال التحقيق وظهور النتائج وتحديد المسؤولية تبدأ المساءلة ومحاسبة المقصرين وتحليل واقع النظام الإداري الذي سمح بمثل هذا الخطأ ويبدأ العمل الجاد على وضع الأسس الكفيلة بعدم تكرار مثل هذه الحوادث.

 
اشكر جلالة الملك على تشريفه إلى مستشفى السلط فور وقوع الحادثة الأليمة وقراره بإقالة الوزير بحكم مسؤوليته المباشرة الأخلاقية والإدارية إذ أن له الولاية العامة على قطاعه بموجب أحكام الدستور وهذا هو الإجراء الصحيح والضروري للبدء بمعالجة آثار الأزمة، وهذا يختلف اختلافاً جذرياً عن توجيه الاتهام وإصدار الأحكام المسبقة على المسؤولين قبل أن يستكمل التحقيق ولكن أن تجري محاكمة المسؤولين عامة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والتشهير بهم قبل معرفة الحقيقة فهذا مناف لثقافتنا ومعارض لدستورنا الذي يؤكد على ?راءة الإنسان حتى تثبت إدانته.

 
حادثة مستشفى السلط تركت أثراً كبيراً في نفوس أبناء الوطن وتشريف جلالة الملك لموقع الحدث ومواساته لعائلات الشهداء خففت من هذا الألم وفي الوقت ذاته زادت من الأمل في أن تتم متابعة هذا الحادث حتى يعرف المقصر وينال عقابه وحتى تتحدد مواقع الخلل فيجري تصحيحها، وفي تشريف جلالة الملك لموقع الحادث رسالة لكل المسؤولين فجلالة الملك يأمر المسؤولين بالعمل الميداني وتشريفه مستشفى السلط هو ترجمة واقعية لتوجيهاته وخير مثال للمسؤولين فهل سيلتقطون الرسالة.

 
كما أن قيام سمو ولي العهد حفظه الله بزيارة بيوت عزاء الشهداء في السلط، يؤكد ما يعرفه الأردنيون جميعهم بأنهم أسرة واحدة مصابها واحد يقوم على رعايتها الهاشميون يتألمون لألم أي واحد من أفرادها ويفرحون مع سرور كل واحد منهم.

أُكبر ذوي شهداء حادثة السلط الأليمة والمتضررين من الحوادث الأخرى وهم يشاهدون هذه المظاهر السلبية واستغلال الحوادث لخدمة الاجندات الخاصة الداخلية والخارجية، ويتألمون لاستخدام هذه الحوادث بهذه الاشكال البشعة ويبقون على صبرهم ولا يهتز انتماؤهم لوطنهم وولاؤهم لقيادتهم وبذلك يضربون المثل بأخلاق الأردني العربي الأصيل.

 
بعد استعراض هذه الظواهر الاجتماعية أذكّر بأن الحلول متوفرة في الأوراق النقاشية الملكية وبخاصة الورقة النقاشية السابعة: «بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية» وفي الورقة النقاشية السادسة: «سيادة القانون أساس الدولة المدنية» التي يجب أن تكون المقدمة الأولى في ترسيخ مجتمع التقدم والنجاح وتحقيق الأولويات الوطنية على أسس المواطنة وليس المحاصصة والواسطة والمحسوبية. والحلول في مجال التعليم متوفرة أيضاً في الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية. 

وجميع هذه الحلول بانتظار إعداد البرامج التنفيذية المفصل? لوضعها موضع التنفيذ.