على الرغم من العواصف والأحداث السياسية والاقتصادية التي تعصف بالمنطقة والعالم، يحقق الاقتصاد الأردني نجاحات فريدة ونوعية صعب تحقيقها من اقتصاديات كبرى تفوق الاقتصاد المحلي بمكوناته إلا أن الإدارة الحصيفة للسياستين النقدية والمالية بالإضافة إلى وجود إرادة سياسية فاعلة وقوية تنتهج التغيير الإيجابي في الملف الاقتصادي، جميعها قادت الاقتصاد المحلي اليوم إلى تحقيق إنجازات تعتبر تاريخية.
وفي نظرة متفحصة بالأرقام الاقتصادية الرسمية، نجد أن الأردن انتهج عملية إصلاح هيكلي، للاقتصاد الكلي منذ سنوات. وارتبط ببرنامج إصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي واجتاز كل مراجعاته بنجاح. وبدأ العام الحالي ببرنامج جديد؛ مما يدل على ثقة المؤسسات الدولية بجدية الإصلاح الاقتصادي التي أرست معالمها "رؤية التحديث الاقتصادي" التي أطلقها جلالة الملك عبدالله الثاني، في حزيران 2022.
ويمثل الاقتصاد الأردني قصة نجاح في بسط دعائم الاستقرار النقدي في المملكة وبلورته إلى واقع ملموس على مدى أكثر من عقدين، رغم تحديات عديدة تعرض لها الاقتصاد الوطني خلال هذه الفترة، كتداعيات الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والربيع العربي في المنطقة في عام 2011، وجائحة كورونا في عام 2020، وأخيرا الموجة التضخمية العالمية.
وبدأ الأردن عامه الحالي بنجاحه في خفض العجز الأولي وللسنة الرابعة على التوالي، وتوقعت الحكومة عند تقديمها مشروع موازنة 2024، خفض العجز الأولي ليصل إلى 812 مليون دينار مقارنة مع عجز بـ1.862 مليار دينار العام الماضي وبنسبة 2.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ2.6 بالمئة في عام 2023.
كما نجح الأردن بالحفاظ على استقراره المالي بشهادة وكالات التصنيف الائتمانية مجتمعة، وصندوق النقد الدولي، وثقة المستثمرين بالسندات الأردنية، وبهذا نجحت الحكومة بحماية مقدرات الطبقة الوسطى من مخاطر الركود التضخمي العالمي.
وحافظت الحكومة على نهجها بعدم رفع الضرائب العام الحالي، وبالمقابل قامت برفع النفقات الرأسمالية إلى "أعلى مستوى لها في تاريخ المملكة"، بنسبة 11.8 بالمئة، عن مستواها في عام 2023 لتصل إلى نحو 1.729 مليار دينار، وتستهدف ارتفاع الإيرادات العامة لتبلغ 10.3 مليار دينار، بارتفاع مقداره 8.9 بالمئة عن العام 2023، وارتفاع الإيرادات المحلية لتصل إلى 9.6 مليار دينار، أو ما نسبته 10 بالمئة عن مستواها في العام 2023، والتي تنعكس في عدم زيادة الضريبة والعمل على مكافحة التهرب الضريبي، ومتابعة التجنب الضريبي، وتحديث البيانات اللازمة لذلك بشكل مستمر بالوقت ذاته. وأيضا توسعت في برنامج الحماية الاجتماعية من خلال رفع مخصصاته لدعم الأسر المستهدفة.
السياسة النقدية كانت حاضرة بقوة في مشروع الإصلاح، وترجمت السياسات وخارطة الطريق بالإعلان عن انخفاض عجز الحساب الجاري انخفاضا ملموسا خلال عام 2023 مقداره 1.46 مليار دينار ليسجل 1.25 مليار دينار، او ما نسبته 3.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 7.8 بالمئة من الناتج خلال عام 2022.
وجاء الانخفاض في عجز الحساب الجاري في ضوء الانخفاض الملموس في عجز الميزان التجاري السلعي للمملكة بمقدار 901.2 مليون دينار11 بالمئة، ليصل إلى 7.3 مليار دينار، وتسجيل الدخل السياحي نمواً نسبته 27.4 بالمئة، وبلوغه "مستوى تاريخيا غير مسبوق" عند 5.2 مليار دينار. كما ارتفعت حوالات الأردنيين العاملين في الخارج بنسبة 1.4بالمئة لتصل إلى 2.5 مليار دينار خلال عام 2023.
والسياسة النقدية التي انتهجها البنك المركزي، كانت متوائمة مع السياسات النقدية للبنوك المركزية العالمية والإقليمية، أسهمت في الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في المملكة، كأحد الدعائم المحورية للاقتصاد، المتمثل بالحفاظ على استقرار معدلات التضخم، الذي بلغ 2.1 بالمئة العام الماضي، وانخفض إلى 2 بالمئة في كانون الثاني من العام الحالي، بعد أن بلغ 4.2 بالمئة في عام 2022، ضمن حدود مناسبة للنشاط الاقتصادي، وبما يحفز البيئة الادخارية والاستثمارية في المملكة. وتُرجمت هذه الثقة باستمرار التراجع في معدل الدولرة ليصل إلى 17.9 بالمئة في نهاية عام 2023، قياساً بمعدلات فاقت 20 بالمئة قبل تداعيات جائحة كورونا، مدعوماً بتوفر "مستوى تاريخي غير مسبوق "من الاحتياطيات الأجنبية يبلغ 19 مليار دولار حالياً، وتكفي لتغطية 8.3 أشهر من مستوردات المملكة من السلع والخدمات. إلى جانب وجود قطاع مصرفي لديه البنية المالية القوية والمستقرة، فضلاً رفع اسم الأردن من قائمة الدول تحت المتابعة في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في عام 2023.
وأقر الأردن وكمتطلب أساسي للإصلاح خلال الفترة الماضية عدة مشاريع قوانين اقتصادية كمشروع قانون معدل لقانون الملكية العقارية لسنة 2023، ومشروع قانون معدل لقانون الشركات، ومشروع قانون مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقانون الاستثمار الأردني الذي قلل من الوقت المستغرق للموافقة على الاستثمارات الجديدة ومنح المستثمرين استقرارًا تشريعيًا لمدة سبع سنوات متزامناً مع إنشاء وزارة الاستثمار، التي تأتي جميعها في خضم العمل لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي، وهي جزء من التحديث الهادف لضمان نجاح هذه الرؤية في تحقيق الأهداف المتوخاة منها، ودورها في جذب وتحفيز الاستثمارات.
بورصة عمان بوصفها مرآة للاقتصاد وانعكاس لسياسته، لم تغب عن المشهد الإصلاحي، فبلغت الأرباح المتحققة بعد الضريبة العائدة لمساهمي الشركات المدرجة في البورصة حوالي 2.781 مليار دينار ، والتي تُعد" ثاني أعلى أرباح حققتها الشركات تاريخياً".
وبالرغم من قيام الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة عالمياً، إلا أن الأردن استطاع بفضل سياسة الاستقرار المالي التي انتهجتها الحكومة، من التعامل مع ارتفاع أسعار الفائدة بأقل الانعكاسات على الاقتصاد الوطني، وأوفت بالتزاماتها في وقتها كعادة المملكة دائمًا.
وتتوج اليوم هذه المسيرة الإصلاحية على الرغم من الظروف الإقليمية لتأتي شهادة أكبر مؤسسات التصنيف الائتماني مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني برفع التصنيف الائتماني السيادي للأردن طويل الأجل بالعملة المحلية والأجنبية من B1 إلى Ba3 مع نظرة مستقبلية مستقرة، وهذه المرة الأولى التي يرتفع فيها التصنيف الائتماني الأردني منذ 21 عاما، بعد ثباته عبر التحديات الإقليمية والعالمية التي عصفت منذ ذلك.
ويبعث هذا التصنيف المرتفع للاقتصاد الأردني، رسالة إيجابية قوية وواضحة للأسواق المالية العالمية وللمستثمرين، ويؤكد سلامة النهج الاقتصادي المتبع المرتكز على مواصلة مسيرة الإصلاح، والسير قدما بتنفيذ مبادرات وأولويات رؤية التحديث الاقتصادي للأردن للسنوات 2023-2033، ويأتي بالتزامن مع نجاح المملكة في إنهاء المراجعة الأولى لبرنامج الإصلاح المالي والاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، والتي ستوفر قرابة 129 مليون دولار للأردن، وبما يدعم تعزيز مكانة الأردن كوجهة جاذبة وآمنة للاستثمارات، وسيؤدي لتعزيز استقرار المستوى المعيشي للمواطن الأردني وسيؤدي إلى خفض كلفة الدين العام الأردني.
الباحث الاقتصادي الدكتور أحمد المجالي، أكد في حديثه لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، أن رفع تصنيف الائتمان السيادي للأردن طويل الأجل بالعملة المحلية والأجنبية من B1 إلى Ba3 مع نظرة مستقبلية مستقرة يعد مؤشرا مهما ومكسبا للاقتصاد الأردني وانعكاسه على العديد من الجوانب.
فمن جانب، يعكس نجاح إدارة السياسة النقدية في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية المحلية بالتوافق مع التغيرات في السياسة النقدية العالمية وضبط معدلات التضخم والمحافظة على مستويات عالية من الاحتياطيات لدعم نظام سعر الصرف، ومتانة عالية في الجهاز المصرفي، ومن جانب آخر، تحقيق الانضباط المالي خلال الفترة الماضية خاصة في ضوء الصدمات والأوضاع الضاغطة التي مر بها الاقتصاد الأردن، وتجدر الإشارة هنا إلى التزام الأردن وإشادة صندوق النقدي بتحقيق كل متطلبات برامج الإصلاح الاقتصادي، وإطلاق الأردن رؤية التحديث الاقتصادي، والعديد من الإصلاحات كانت لها أثر إيجابي في تعديل التصنيف الائتماني.
وأضاف أن من الجوانب المهمة التي يمكن قراءتها في مبررات الرفع والنظرة المستقبلية هي التوقعات الإيجابية وخاصة في الجوانب السياسية في المنطقة وعدم توسع نطاق الحرب، وتوقع تحسن المؤشرات الاقتصادية من بينها انخفاض نسبة العجز والمديونية وهذه التوقعات الإيجابية لها أثر إيجابي على الاستثمار المحلي والأجنبي.
وأشار المجالي إلى أن تعديل التصنيف الائتماني يستفيد منه الاقتصاد الأردني بعدة مجالات، أولها زيادة الثقة لدى المستثمرين والجهات الدولية، مما يُسهم في جذب استثمارات جديدة وتعزيز التدفقات المالية الخارجية.
كما يمكن لهذا الرفع أن يقلل من تكلفة الاقتراض للحكومة الأردنية، مما يساهم في تخفيف العبء المالي على الميزانية وتعزيز القدرة على تمويل المشاريع التنموية وتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية في البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر رفع تصنيف الائتمان إشارة إيجابية عن قدرة الدولة على إدارة الديون وتلبية التزاماتها المالية بشكل مستدام، مما يعزز سمعة الأردن على الساحة الدولية ويعكس الثقة في استقرارها الاقتصادي والمالي في المستقبل.