إن المتابع اليوم لملف السياحة العلاجية على مستوى العالم بشكل عام ومستوى الأردن بشكل خاص يصطدم بأرقام مذهلة وبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية / جمعية السياحة الطبية، فقد بلغ عدد طالبي العلاج خارج أوطانهم عالمياً 14 مليون إنسان، وبعائد مالي لا يقل عن 115 مليار دولار أمريكي سنوياً في عام 2022، وبمعدل نمو سنوي مركب 11.5% ومن المتوقع، حسب الدراسات، أن يصل هذا الرقم في عام 2030 إلى 346 مليار دولار سنوياً علمًا أن ذات التقارير أشارت إلى أن تايلاند قدمت خدمات علاجية إلى مليون وثمانمائة ألف سائح علاجي، بينما قدمت تركيا خدماتها العلاجية لمليون ومئة ألف زائر، بعائد تراوح بين 4 إلى 5 مليارات دولار كما أن الهند قدمت خدمات إلى 20% من طالبي العلاج بالخارج على مستوى العالم بقيمة بلغت 9 مليارات دولار.
أما بالنسبة للأردن، فإن ما يتم نشره من تقارير غير رسمية حول واقع السياحة العلاجية يشير إلى إيرادات بلغت مليار دولار سنوياً، وبعدد مرضى وصل إلى 250 ألف سائح علاجي بالرغم من التراجع، تعود هذه الأرقام لعام 2015 وما قبل وما يعرض حالياً بحاجة إلى تمحيص؛ حيث إن تقرير مديرية السياحة العلاجية في وزارة الصحة يشير إلى أن عدد من تلقى العلاج في المستشفيات الخاصة من حاملي الجنسيات الأخرى، وليسوا مواطنين، خلال الثمانية أشهر الأولى من العام الحالي 2024 لم يتجاوز 40 ألف مريض كما أن جزءاً كبيراً منهم من الجنسيات المقيمة في المملكة، مثل الجنسية الفلسطينية والسورية والعراقية، وأن ما يصدر من تقارير حول إجمالي عدد المرضى هو نفس الرقم مضروب بثلاثة أضعاف لاحتساب ما يُعتقد أنهم زوار تلقوا العلاج من خلال العيادات الخارجية ومراكز التجميل وعيادات الأسنان والأقسام الخارجية للمستشفيات دون تنويم أو إدخال للمستشفى ولا توجد إحصائيات رسمية دقيقة بأعدادهم، والمؤشر الذي يؤكد ذلك هو عدم تحقق الإيرادات فعلياً كما في السابق وبالرغم من ذلك، وجب استبعاد عمال المصانع والمزارعين وأي وظائف أخرى من غير الأردنيين المقيمين في الأردن كونهم لا يصنفون ضمن السياحة العلاجية.
وبقراءة متأنية، نعلم أن حجم السياحة العلاجية ليس بالحجم المطلوب والمكافئ لإمكانيات الأردن الطبية وطموحاته، علماً أن حجم مساهمة السياحة العلاجية سابقاً في الناتج الإجمالي المحلي بلغ 3.5%، وبعائد قدره مليار دولار، وهذه سنة الأساس لرؤية التحديث الاقتصادي الخاصة بالقطاع، والهدف هو الوصول مع نهاية الخطة إلى إيرادات بقيمة 2.2 مليار دولار ومعالجة عدة مشكلات، أبرزها البطالة.
وعند العودة إلى موضوع الجنسيات "المقيدة" التي أرهقت أسماعنا، فإن تلك الجنسيات لا تشكل سوى 5 – 10% من طالبي العلاج خارج أوطانهم حسب تقديراتنا ويعلم المراقبون أن أبرز تلك الجنسيات هي السودانية واليمنية والليبية والعراقية، إلا أنه بعد الربيع العربي لم تعد دولهم تتحمل تكاليف علاجهم في الأردن كما قبل الربيع العربي، وملف الديون الليبية خير شاهد على ذلك، عدا عن الضرر الحاصل من العملة السودانية والظروف الاقتصادية في اليمن. وبذلك، فإن عودة منح التأشيرات للجنسيات المذكورة لن تعيد أعداد القادمين للعلاج في الأردن إلى سابق عهدها، خصوصاً بعد رفع القيود عن كل من ليبيا وجيبوتي. لذا، فإننا نؤيد قرار رفع الحظر عن أي جنسية تأتي للعلاج ضمن ضوابط.
إذاً ما الحل؟
صحيح أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، لكن الجنسيات المقيدة هي شماعة لكل من لا يبذل جهداً لتوحيد الطاقات بين المؤسسات الرسمية والخاصة، وهم يتحملون بالدرجة الأولى المسؤولية كان من الأولى على إدارة جمعية المستشفيات الخاصة منذ عام 2015 التوقف عن جلد الذات وتحميل المشكلة لوزارة الداخلية، والبدء بالبحث عن أسواق جديدة في أفريقيا وأوروبا والخليج ودول مختلفة حول العالم لإعادة البريق لهذه الصناعة الهامة والتوسع بالخدمات إلى ملف السياحة الاستشفائية.
لكن المراوحة في المكان هي السمة الأبرز، والجهود الفردية من بعض المستشفيات الكبرى لن تؤتي ثمارها على مستوى الوطن ومن هنا، فإن هذا الملف، لأهميته القصوى، بحاجة إلى تشكيل هيئة مستقلة تعنى به، وفي يقيننا أن سيد البلاد سيكون أول الداعمين لهذا الملف.
كما أن استقدام خبير لتولي قيادة الهيئة أمر سيجنبها الفشل ويشكل بداية لخارطة طريق واعدة لملف السياحة العلاجية، حيث سيكون نطاق عمل الهيئة هو تنسيق جهود الوزارات المختلفة لفتح أسواق جديدة وسرعة التعامل معها من أجل إعادة هندسة السياحة العلاجية واستغلالها كصناعة هامة للوطن. فعلى سبيل المثال، يمكن توزيع الأدوار على الوزارات كما يلي:
وزارة الخارجية: من خلال الهيئات الدبلوماسية في مختلف الدول، تجمع بيانات حول الفرص الواعدة وتقوم بتشبيك العلاقات للترويج للأردن كمقصد للسياحة العلاجية.
وزارة الداخلية: لتسهيل التأشيرات للمرضى القادمين من مختلف الجنسيات الجديدة، والمسح الأمني لهم.
هيئة تنشيط السياحة: لوضع مستهدفات للدول المستهدفة، وتوجيه الموارد لتجنب العمل العشوائي.
وزارة العمل: لتدريب الكوادر على التعامل مع القادمين للعلاج وخلق فرص عمل للأردنيين في الخدمات اللوجستية والفندقية والمطاعم والنقل.
وزارة الاستثمار: لخلق فرص واعدة أمام المستثمرين وتسهيل الإجراءات، خصوصاً في النقل والمطاعم والمستشفيات.
وزارة الصحة: لتنظيم القطاع بمرونة عالية وتعديل التشريعات اللازمة ومنع التغول المالي والفني للمحافظة على صورة القطاع الطبي.
وبذلك نصل إلى تحقيق مستهدفات رؤية التحديث الاقتصادي لهذا الملف. علماً أن مناخ الأردن وإمكاناته الطبية ومعدل الكلف مقارنة بالأسواق المحيطة والتجهيزات التقنية هي حافز لنجاح السياحة العلاجية، لكن القطاع بحاجة لمن يروج له، وأولى خطوات العمل هي التوقف عن الاتهامات الفارغة فيما يخص الجنسيات "المفيدة" والبحث عن أسواق واعدة جديدة وتنسيق الجهود.
أحمد الأحمد
نائب رئيس جمعية المستشفيات الخاصة