لا تبدو فكرة وجود حزب صلب وقوي ومتماسك ولديه نفوذ أفقي في المجتمع والانتخابات والبرلمان معاً مستقبلاً، فكرة يؤيدها أصدقاء كثيرون داخل الإطار الهندسي في الحكومة ودوائر القرار حتى عندما يتعلق الأمر بحزب وسطي يصيح ليل نهار منذ أشهر بالولاء وتبني روايات السلطة.
المحظور كبير ومرصود في سياق النقاشات الحزبية التي بدأت تلطم ببساطة أطراف ثوب مشروع التحديث السياسي، حيث انتخابات حددت في 10 أيلول المقبل بمقاسات هندسية صعبة ومعقدة وبشرطين فرضتهما المؤسسة وليس الأحزاب منطقياً، هما: أولاً، أكبر قدر ممكن من النزاهة، وثانياً تعزيز فرص ومقاعد الأحزاب في سلطة التشريع.
تلك المنهجية في التفكير هي أساس وجوهر مشوار تحديث المنظومة السياسية وفقاً للفهم الذي تحدث به سابقاً مع «القدس العربي» أحد أبرز نشطاء التحديث خالد البكار، الذي يضم صوته للقائلين بأن الوثائق المرجعية موجودة الآن، والتوافقات حصلت وستخضع لها المؤسسات، والأحزاب متاحة للاعتراض والملاحظة قبل الصامت أو الهادئ، والحجة إذن على الناس وأحزابهم. لكن الاعتماد في القياس والمقاربة على ما يقترحه البكار، قد لا يكفي لبث جرعة أمل بانتخابات نظيفة على الأقل في العام 2024 ولو من باب تعزيز مصداقية مسار تحديث المنظومة برمته.
وهو حصراً ما تنبهت له شخصية عميقة في التحليل والتجربة الآن وتحتك بالميدان، مثل عضو مجلس الأعيان الدكتور محمد المومني، الذي يحب تذكير الجميع في الدولة والمجتمع بقواعد اللعب النظيف في عهد التحديث.
«تسلل المال الأسود»
ما يحذر منه المومني هو تسلل المال الأسود الى العملية والأحزاب، وما يذكر به هو أن أي محاولة للمساس بنزاهة العملية الانتخابية المقبلة ستقام عليها الحجة وضدها في ملف التحديث برمته إن كانت رسمية أو أهلية.
وفي المقابل، الخيارات متاحة للتأثير في البوصلة واتجاهات الناخبين قبل يوم الاقتراع والصندوق فقط. ما يلمح له المومني، ويقوله صراحة، متوافقاً ضمناً مع ما سمعته «القدس العربي» مراراً من البكار ورئيس الهيئة المستقلة للانتخابات موسى المعايطة وغيرهما، هو أن من لديه الطموح أو الرغبة في التأثير في مجريات الانتخابات المقبلة يتيح له الواقع القانوني ذلك في مراحل ما قبل الصندوق.
لكن العبث بعد الصندوق، مسألة باتت من المحرمات ليس في سياق النص القانوني فحسب، ولكن في سياق الاعتداء على مشروع واستراتيجية التحديث التي تقررت مرجعياً ومؤسساتياً.
أسابيع فقط تفصل الأردنيين عن انتخابات مهمة، ولعلها هذه المرة مهمة للدولة ومراكز القرار أكثر من المواطنين والقواعد الاجتماعية، فعلى المحك تراث من سرديات الهندسة والعبث، وعلى المحك مصداقية التحول نحو الحياة الحزبية، وعلى المحك شرطان مفترضان يحكمان معادلة النقاش اليوم وهما: منع التدخل في العملية الانتخابية إلى أقصى حد ممكن، وإفساح المجال والساحة والمساحة لولادة أحزاب تتهيأ وتهيئ البلاد والعباد لحكومة أغلبية حزبية برلمانية ما دامت الوثائق المرجعية ضمنت ذلك، وما دامت سلسلة تعديلات دستورية عملت على تحصين مؤسسة القرار المرجعي وصلاحياتها بصورة لا تدفع الدولة يوماً للجلوس في حضن حزب. قالها المخضرم طاهر المصري مرتين أمام «القدس العربي» وهو يدعو إلى إيجابية في الاشتباك التحديثي، معبراً عن خشيته من أن حرص بعض مراكز القوى على توازنات كلاسيكية قد يدفع في اتجاه عبث فاضح بالانتخابات.
لذلك، يشعر جمهور المثقفين سياسياً عموماً بأن الفارق حاد وعميق ما بين تدخل مفهوم قد يعتبر منطقياً إلى حد ما في الهندسة الانتخابية، وما بين كلفة وفاتورة التدخل الفاضح.
تعامل «إسلامي» بارد
وما يخشاه سياسيون «ثقال الوزن» مثل المصري وغيره، أن تضطر فعاليات الهندسة للتدخل الفاضح بسبب ميزان المصالح والتوازنات والظروف المضطربة في الإقليم في صيغة ستبقى كلفتها عالية على الدولة قبل المجتمع.
الانتخابات النيابية الأردنية بعد أسابيع تختبر الكثير من المسائل الإجرائية والسياسية والوطنية الحساسة. يتعامل التيار الإسلامي حتى اللحظة ببرود شديد مع هذه الانتخابات منشغلاً فقط بمعركة طوفان الأقصى، كما قال علناً القيادي فيه الشيخ مراد العضايلة. وفيما يحصل ذلك على جبهة الإسلاميين، تبدو جبهة الأحزاب الوسطية، رغم ارتفاع جرعة ومنسوب الموالاة في خطابها، مضطربة إلى حد ملموس لسببين مبكراً: السبب الأول هو أن بعض قيادات تيارات أحزاب الوسط تشعر بأن هندسة ما قبل الصناديق قد تحولها إلى «حشوات» لصالح تيارات حزبية أخرى مفضلة ومدللة. تعبير «الحشوة» هنا استعمله بغضب أحد أبرز قادة تجربة حزبية وسطية في البلاد مؤخراً واستعمله قائد لحزب آخر بدأ يشعر بأن التفاهمات قد تطيح به.
لذا، أقتضى التنويه؛ لأن غموض حصص أحزاب الوسط في مقاعد برلمان 2024 يدفع تلك الأحزاب ورموزها نحو بعض الاضطراب، ما دفع على الأرجح المعايطة لإطلاق تصريحه الشهير بعنوان «الانتخابات الوشيكة قد لا تكون مثالية».
أما السبب الثاني في السياق، فهو استقرار شعور فاعلين أساسيين في مسار التحديث انتخابياً بأن فلسفة جوائز الترضية للأحزاب الممتثلة الوسطية التي تكاثرت مؤخراً قد تطيح بقواعد التنافس العادل والمنصف.
وهي فلسفة تنتج عن شعور يتنامى وسط الوسطيين وليس المعارضين، بأن القوى الأساسية الرسمية لم تحسم بعد ما إذا كان مسار التحديث برمته بعد إقراره يستحق مغامرة كبيرة يمثلها حزب وسطي واحد يتولى الأغلبية ويتصدر المشهد حتى باسم الولاء.
تريد دوائر القرار حتماً الاستجابة للقواعد المرجعية القديمة التي كانت تتأمل الحد من الازدحام الحزبي والنضوج إلى مستوى ثلاثة أحزاب رئيسية قوية بصيغة تسمح بتداول السلطة وحكومة الظل. لكن ذلك لم يضمنه مسار التحديث، وفتح الباب على مصراعيه أمام الأحزاب الجديدة؛ فقد ازدحم دعاة ومدّعو الولاء أو الموالاة والوسطيون على أعتاب نحو 25 حزباً تريد جميعها حصتها الآن من كعكة الانتخابات.
والحفاظ على ضمان انضباطها في الولاء قد يتطلب سياسة جوائز الترضية، ما يعني غضب واحتقان وحشوات، فيما تقطف المعارضة موحدة خلف حزب قوي واحد ثمار ذلك التدافع الذي يؤدي إلى تصدع واضطراب هندسي.