خمس حقائق تكشفت عنها انتفاضة الشعب الفلسطيني في «القدس وأكنافها»، تبدو محمّلة بالدروس والدلالات، التي يتعين التوقف عندها، والتأمل بها، إلى جانب المتابعة اليومية لصفحات المجد والبطولة التي يسطرها المقدسيون وأبناء شعب فلسطين، في مواجهتهم الباسلة لطوفان الاستيطان والعنصرية:
الأولى؛ أنها الشاهد الحي، على أن هذا الشعب المحمّل بالمفاجآت، لا يكف عن المبادرة والإبداع في ابتكار وسائل وأنماط كفاحه، وأن روحه الوطنية الوثّابة، تتقافز من بين ضلوع أبنائه، جيلاً بعد جيل، وأنه هو، من يفرض أجندته على قيادته، ويرسم لها طريق الخلاص، بعد أن تبددت بها السبل، وتاهت في دهاليز الضعف والترهل والانقسام وشغف السلطة وامتيازاتها...الفلسطينيون تعلموا الدرس جيداً، وبالفطرة المُعززة بالتجربة، هم يعرفون أن الانتفاض في وجه الاحتلال، هو الصوت الاحتجاجي الأقوى والأمضى، ضد الانقسام والترهل والشيخوخة والفساد والرهانات الخائبة.
الثانية؛ أن انتفاضة القدس وشعبها، تؤذن بإزاحة «الخط الأخضر»، وبقية خطوط التقسيم التي فرضت على الشعب الفلسطيني... وإذا كانت إسرائيل هي من بدأ بإزالة هذا الخط، طمعاً في «الضم» والاستيلاء على أرض الفلسطينيين وتبديد حقوقهم التاريخية، فإن الفلسطينيين يركلون هذه الخطوط بأقدامهم، ولكن بهدف إعادة بناء وحدتهم الوطنية، كشعب واحدٍ، على أرض فلسطين التاريخية، في مواجهة الابتلاع والتبديد والتهويد و»الأسرلة»...سقطت رهانات «المتأسرلين» الإسلامويين الذين ظنوا أنهم بزحفهم على بطونهم أمام نتنياهو وبينت وحاخامات اليمين المتدين الإسرائيليين، إنما يسلكون طريق الحق، وبئس ما كانوا يظنون...هذه الانتفاضة التي وحدت الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج والشتات، إنما تُسقط مساعي أطراف عدة، ومنها فلسطينية، لاختصار الوطن بخرائط أوسلو، والشعب بمن تبقى على جزر الوطن المعزولة...الشعب الفلسطيني، بملايينه الثلاثة عشرة، يثبت من جديد، أنه عصي على القسمة والاختزال، وأن على القيادة أن تنبذ أوهامها، وأن تشرع من دون إبطاء في استعادة وحدة الأرض والشعب والمشروع.
الثالثة؛ أن هذه الانتفاضة تظهر عُمق الفجوة بين الأطر المؤسسية والفصائلية الفلسطينية من جهة، والجيل الجديد من أبناء شعب فلسطين من جهة ثانية، جيل ما بعد أوسلو، فالمنتفضون في القدس، لا يشبهون قياداتهم في رام الله ولا في غزة، ويومياتهم وأولوياتهم، لا تتماثل مع جدول أعمال «الإخوة الأعداء»، وهم يوجهون رسالة لدعاة التيار ثالث، التجديدي، الإصلاحي، الثوري، بأن طريقهم قد فُتح، وأن عليهم أن يهبطوا عن «منصات الزووم»، إلى شوارع القدس وميادين المدن الفلسطينية المختلفة، فهذا هو العالم الواقعي، وبخلافه افتراضي بامتياز.
الرابعة؛ أن هذه الانتفاضة، تطلق إرهاصات تغيير، جنينية حتى اليوم، في المجتمع الإسرائيلي ذاته، ولا يتعين على أحد، أن يقلل من شأن «مذكرة الـ185» التي أطلقها مثقفون وفنانون وجنرالات إسرائيليون سابقون، يناشدون فيها محكمة الجنايات الدولية، التدخل للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، بعد أن نزعوا الحياد والموضوعية عن الجهاز القضائي الإسرائيلي...كرة الثلج بدأت تتدحرج، و»نزع الشرعية» عن الاحتلال والعنصرية، لم يعد يقتصر على تقارير بتسيلم وهيومن رايتس ووتش.
الخامسة؛ أن هذه الانتفاضة، تصفع مسار الهرولة نحو التطبيع، وتنهض شاهداً على تهافت المطبعين العرب، وبعضهم أخذته العزة بالإثم، حتى وهو يرى تهاوي فرضياته المتهافتة، التي استعارها من قاموس نتنياهو، فيواصل مساره الزاحف صوب اليمين الصهيوني بحثاً عن «شبكة أمان»، مثقوبة في الغالب، ومنافع انتهازية، مهددة بالضياع، بعد أن فقد التطبيع زخمه ورهاناته الاستراتيجية، جراء التطورات الأخيرة في العالم والإقليم من حولنا...لم يبق على أهل القدس وفلسطين، وهم ينتفضون ضد الاحتلال والعنصرية، سوى «كنس» رموز التطبيع ومؤسساته وقوائمه» في القدس وبقية الأرض الفلسطينية. وللبحث بقية.