صوت عمان : يُمرّر رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد الكريم الكباريتي، مناسبة إشهار مذكرات مروية لكاتبها أحمد الحوراني عن طبيب القلب الأردني، وأحد أول راود الخدمات الطبية الملكية، يوسف القسوس، من دون أن يُلمح الكباريتي إلى حالة البلاد والخشية من الراهن، بصيغة أن "من حقنا أن نقلق". والكباريتي أحد أبرز رؤساء الحكومات في عهد الملك حسين. قال، في حفل إطلاق كتاب "بين الجندية والطب"، إن القلق مشروع، وإنّ الرؤية مضطربة، وإنّ الدخول في الأردن إلى مئوية جديدة، يجب أن يكون مفتوحا على مستقبل واضح محدّد المعالم، فالواقع لا يتسع عنده لـ "إطلاق صيحات الويل والثبور، فجيلنا لا يخشى التغيير ولا يفزع من وتيرته وتجديد شبابه، ولكن من حقه أن يقلق قلقا مولعا بحب الوطن .. الوطن القادر على الإمساك بالمستقبل، الوطن النصير للمشاركة والتنوّع المتناسق الموحد، الرافض للتعصب وصعود العنف واليأس، الوطن الذي لا يقبل التسليم بدخول المئوية الثانية على مركبٍ نحن على متنه هائم على وجهه بلا طريق ولا مقصد ولا رؤية أو بوصلة .. نحن في بحر إقليم هائج متكئين فيه على حسن النوايا (حتى لا نقول اتفاق النوايا)، والثرثرة على ضفاف الحقيقة وعلى أروقة المؤتمرات، متعامين عن واقع الحال". الكباريتي والروابدة نموذجان من رجال الحكم والملك في الأردن، يعرفان متى تكون ممارسة النقد، ويدركان خفايا البلد وظروفها ليس هذا التحسّب والنقد المغلف بحب الوطن عند الكباريتي وحده! فقبله صدرت تصريحاتٌ لعبد الرؤوف الروابدة، رئيس الوزراء الأول في عهد الملك عبدالله الثاني، والموسوم بأنه من معسكر المحافظين حول الإصلاح والحياة الحزبية ومصطلح الهوية الجامعة. وقال، في محاضرة له في مركز "مسارات"، إن الحياة الحزبية صعبة التحقق في الأردن، وإن المواطن محتقن: "لا تصدّقوا أن هناك حياة حزبية في الأردن. حاولنا في التسعينات الانتقال إلى الأحزاب البرامجية كبديل عن العقائدية لكن المواطن لا يريدها". أما مصطلح الهوية الجامعة الذي ورد في مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، فقد ناله أيضا الاستغراب عند الروابدة، قائلاً: "لم أشاهد بحياتي هوية تحمل أوصافا، والعقد الاجتماعي الجديد انتهى بترجمته إلى الدستور". أما الجو العام في الأردن فقد وصفه بأنه "محتقن ومحبط، فالمواطن يعيش على مبدأ الإشاعة اليومية". الكباريتي والروابدة، نموذجان من رجال الحكم والملك في الأردن، يعرفان متى تكون ممارسة النقد، ويدركان خفايا البلد وظروفها. وهم ينتقلان اليوم من الخبرة السياسية إلى النقد السياسي، وهذا حقّ مشروع، لكن في موازاة النقد من رجال الدولة وخبرتها البيروقراطية، هناك نقدٌ من خارج رحم الدولة من الأحزاب والطلاب والساسة والكتّاب. والثابت أن لا مجال لممارسة نقدية عقلانية تطرح بديلاً والحكومات تضيق بالنقد. والبديل مهم التحدّث به، والإصلاح في الأردن لم يكن صناعة الجمهور وحسب، بل إن مبادرات كثيرة قدّمها القصر، وصدرت بعدة صيغ ملكية، بعضها تحقّق، وبعضها ما زال لم ينجز أو يكتمل، ولم يستطع بعضهم عبور جدار الشعب الأردني الذي يحسّ دوما بأن أي إصلاح أو تقدم ديمقراطي سيكون على حساب هويته ومستقبله وموارده. هناك أيضا أحجية المؤامرة والتوطين، والحديث عن ضياع البلد وحقوق أهلها الأصليين. وعندما يكون الحديث عن التمثيل السياسي، يعود الناس إلى الجغرافية والتنمية وغيابها، في مقابل مطالب شريحة واسعة من النخب والشعب بأن يكون التمثيل السياسي مرتبطا بالعدد. ليس في مثالي الروابدة والكباريتي أي خلاصة معرفية للنقد السياسي في الأردن، لكن الرجلين ليسا من نماذج الشعبوية السياسية صحيح أن رجال الملك يتصدرون واجهة الحديث السياسي أحيانا عندما يكونون مخالفين أو مختلفين مع التوجهات السائدة أو المطروحة، لكن ذلك ليس مردّه فرادة الرأي الذي يطرحونه، فهم يمارسون النقد وهم أبناء النظام ومداميكه، وهم من شهدوا على تجارب إصلاحية عديدة، وربما من شاركوا في إنفاذ بعدها أو تعطيل بعضها، هم من واجهوا صراع الأجهزة الأمنية التي كانت تحول دون ديمقراطية كاملة، في زمن سابق تحت تأثير الأحكام العُرفية، هم من نجحوا في حالات نادرة في ممارسة النقد وطرح الآراء، ومخالفة ما يروّجه أو يطرح من فوق، وإن كان خلافهم لطيفاً غير حادّ، ويتدبر مصائر كل من أراد الإشراق أكثر من السيد. ولكن فرادة ما يقولونه قد يغيب وينتهي، إذا ما تتبع أحد الجمهور مواقف تلك النخبة ورصد تحولاتها، وهي فرادة معترف بها أيضا نتيجة غياب الزعامات السياسية في البلاد، بمعنى تلك التي تأتي من رحم حركة حزبية وطنية أو برلمان حقيقي ممثل للناس. ليس في مثالي الروابدة والكباريتي أي خلاصة معرفية للنقد السياسي في الأردن، لكن الرجلين ليسا من نماذج الشعبوية السياسية. لقد اختلفا حين كانا في سدّة الحكم يوم كان الروابدة رئيسًا للحكومة عام 1999، وحينها كان الكباريتي رئيسًا للديوان الملكي. واختلفا حين قرّر الكباريتي في عهد حكومته عام 1996 رفع أسعار الخبز، وقدّم الروابدة للملك حسين رأيًا مخالفاً لتوجه الحكومة، لكنهما يعودان اليوم إلى الواجهة في نقد ضمني لمسارٍ عام آلت إليه البلاد. ومع أنهما يشتركان في دراستهما في الجامعة الأميركية في بيروت، مع فارق الانتماء الحزبي بينهما خلال شبابهما ذاك (كان الروابدة إسلاميا أخوانيا فيما كان الكباريتي مع حركة القوميين العرب)، إلّا أن ما يجمع بينهما الدخول في المشهد العام وعدم الاحتجاب والمشاركة في السجال السياسي والشجاعة في الرأي، وهي مسألة مهمة لرجل الدولة في بلد مثل الأردن، لا تجد السياسة من يتعامل معها باعتبارها حرفة. نماذج الروابدة والكباريتي والمعشر تقدّم صورة عن طبيعة الخلفيات والمواقف من الإصلاح والتحديث السياسي الذي طلبه الملك عبدالله الثاني من لجنة ملكية تصريحات الكباريتي والروابدة وغيرهما يجب ألا تمر كما لو أنها حجرٌ رمي في بئر ماء جدل التحديث السياسي، فكلا الرجلين لم يكن قاطعا حاسما في إعلان اختلافه مع ما طرح وانتهى بيد مجلس النواب، ثمّة تحفظات وتحسبات وقلق غير واضح مصدره. وبين هاتين الرؤيتين هناك رؤية أخرى مؤيدة لمسار الإصلاح، لوزير البلاط الملكي الأسبق، مروان المعشر، الذي قدّم محاضرة في منتدى مركز حماية وحريات الصحافيين قبل أشهر، تحدّث فيها عن ظروف الأردن الراهن والعلاقات مع الولايات المتحدة في زمن الرئيس بايدن وفرصة الأردن الراهنة. ولكن المعشر الذي ظهر لاحقاً على شاشة قناة رؤيا، مدافعا عن مصطلح الهوية الجامعة، ومخرجات أجندة الإصلاح، كان واضحا وقاطعا بشأن الخيار الديمقراطي المنشود. وفي هذا، يرسم المعشر لنفسه مخرجا مباشرا في تأييد ما يريده الملك، على الرغم مما عُرف عنه منذ سنوات بنقده السياسي العلمي مسار الإصلاح وعدم تطبيق سياسات واضحة منذ إخفاق مشروع الأجندة الوطنية الذي تبناه وأشرف عليه عام 2005. هذه النماذج الثلاثة لرجال القصر والملك في الأردن (الروابدة والكباريتي والمعشر)، تقدّم صورة عن طبيعة الخلفيات والمواقف من الإصلاح والتحديث السياسي الذي طلبه الملك عبدالله الثاني من لجنة ملكية برئاسة سمير الرفاعي (رئيس حكومة سابق)، لكن تلك المواقف، وإن تبَدّت في أحاديث الناس، وباتت جزءاً من الروتين، إلّا أنها مؤشّر على بنية النخبة، وطبيعة السياسيين البارزين الذين يبنون شعبيتهم ويواظبون على الحضور بالتأكيد على تماهيهم مع الشارع، أو مع الحكم. يحدُث هذا في ظل حالة أردنية ينتقل فيها الأردنيون من مناهضة الحكومات إلى مناهضة السياسات والسياسة، وأي وارد من بيت الشعب (البرلمان)، باعتبار أن الواقع تسيطر عليه قلةٌ من المحاسيب والأصدقاء والوزراء المكرّرين والنواب المتحالفين مع مصالحهم.