في الوقت الذي يعيش فيه الأردنيون ضغوطًا اقتصادية متصاعدة، تتسلل إلى حياتهم إعلانات براقة عن "التداول العالمي"، تعدهم بتحقيق الثراء السريع وجني الأرباح بكبسة زر.
لكن خلف هذا البريق، تقبع حكايات مأساوية لضحايا خسروا أموالهم ومدخراتهم، في واحدة من أخطر الظواهر المالية التي تشغل الرأي العام الأردني.
قصة خسارات ملايين الدنانير
وفي أبرز قضية رصدها موقع "صوت عمّان"، تعرض المواطن الأردني (م . ف) لخسارة بأكثر من 4 ملايين دينار، وتم رفع قضايا احتيال وتلاعب ضد الشركة، وكسب المواطن أول حكم قضائي لصالحه، إذ ألزمت المحكمة الشركة بدفع مبلغ كبير للمواطن المتضرر، في انتظار صدور أحكام أخرى خلال الفترة المقبلة.
وبعد صدور الحكم سارعت الشركة بإرسال وسطاء من أجل لملمة الفضيحة، وعرضت تسوية بمئات آلاف الدنانير مع المستثمر بعيدا عن المحاكم، وبعد اتصالات كثيفة ولقاءات، وافق المواطن على الصفقة في انتظار حصوله على المبلغ المتفق عليه مقابل إسقاط القضايا المرفوعة ضد الشركة.
متضرر آخر كشف أنه خسر 650 ألف دينار أردني بعد أن وقع في فخ إحدى شركات التداول العالمية العاملة في الأردن. الشركة أغرته بوعود الثروة، ثم أغلقَت أمامه السوق فجأة بحجة أن "النظام معطّل"، ليكتشف أن الحلم الذي سعى وراءه لم يكن سوى وهم منظم، انتهى بابتلاع أمواله.
قصة هذين المواطنين ليست سوى نموذج واحد لعشرات وربما مئات الأردنيين الذين وجدوا أنفسهم ضحايا لشركات تستغل حاجاتهم الاقتصادية، وتسوّق لهم أرباحًا غير واقعية.
أحد المحامين أبلغ "صوت عمّان" أن العشرات من المتداولين المتضررين وكلوه لرفع قضايا ضد الشركة، وتصل المبالغ التي يطالبون بها 40 مليون دينار، مؤكدا أن الأدلة واضحة بتورط الشركة في الاحتيال على المتداولين بأساليب شيطانية، لكن تقارير الخبرة جميعها تكشف طرق الاحتيال وبالتالي تقضي المحكمة بإدانة الشركة.
سوق الوهم والخداع
خبراء ماليون يؤكدون أن بعض شركات التداول تنفذ أساليب ممنهجة للإيقاع بالعملاء. وتبدأ الحيلة بإقناع المتداول بأن السوق في خطر، فيتخذ قرارات متسرعة تؤدي لخسارة أمواله، ثم تُغلق أمامه المنصة بحجة "تعطل النظام"، وفي هذه اللحظة، تربح الشركة ويخسر المتداول.
هذه الشركات لا تكتفي بخداع الأفراد، بل تنفق ملايين الدنانير على الإعلانات المضللة، وتبني علاقات عامة متعددة لتحصين نفسها، فيما جوهر عملها قائم على استنزاف أموال الناس لا على استثمار حقيقي.
تحرك أمني.. وتصريح لافت للظهراوي
تفاقم الشكاوى والضحايا استدعى تدخلا رسميا، فقد أعلن النائب محمد جميل الظهراوي أن الأجهزة الأمنية اتخذت إجراءات قانونية بحق إحدى شركات التداول التي أوقعت مئات الأردنيين ضحية للاحتيال المالي.
وقال عبر صفحته على فيسبوك: "الحمد لله أولاً وأخيراً، كنت قد تحدثت الأسبوع الماضي عن إحدى شركات التداول التي أوقعت مئات المواطنين الأردنيين ضحية للاحتيال المالي المنظم. واليوم، وبفضل من الله، ثم بجهود الأجهزة الأمنية والتنفيذية، تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق القائمين على هذه الشركة، وتم وضع حد لهذا التلاعب الذي استهدف ثقة الناس وأموالهم. كل الشكر والتقدير للأجهزة المختصة على سرعة الاستجابة والحرص على حماية المواطنين."
هذا التصريح كشف أن الملف أصبح قضية عامة، وأن التعامل مع شركات التداول لم يعد شأنًا فرديًا، بل قضية تتعلق بأمن اقتصادي واجتماعي.
أسئلة العرموطي.. حقائق صادمة
على صعيد موازٍ، وجّه النائب صالح العرموطي سلسلة أسئلة برلمانية إلى الحكومة، وضع فيها علامات استفهام كبيرة حول عمل هذه الشركات. ومن أبرز ما طرحه:
هل تمارس الشركات الأجنبية أعمال البورصة في الأردن دون الحصول على تراخيص رسمية؟
هل ثبت وجود شركات وساطة أجنبية غير خاضعة لهيئات رقابية؟ وهل تمت إحالتها للادعاء العام مع الوسطاء المحليين المتورطين؟
هل تقوم بعض هذه الشركات بأعمال صيرفة عبر تحويل أموال العملاء من الدينار إلى الدولار دون رقابة مصرفية؟
لماذا لا تُلزم هيئة الأوراق المالية هذه الشركات بإيداع مبالغ ضمان لحماية أموال المتداولين، خاصة أن حجم تداولها يصل لمئات الملايين بينما لا يتجاوز رأسمال بعضها خمسة ملايين؟
كم يبلغ عدد المتداولين الأردنيين؟ وهل صحيح أنهم لا يقلون عن 100 ألف شخص؟
هل فعلاً بلغت خسائر الأردنيين المحولة للخارج خلال عام 2023 فقط بين 2 و3 مليارات دولار؟
هذه الأسئلة – التي لم تحظَ حتى الآن بإجابات رسمية واضحة – تكشف حجم الفجوة بين الواقع والرقابة، وتثير المخاوف من أن تتحول الظاهرة إلى أزمة اقتصادية وطنية.
وهم قديم يعود بوجه جديد
المشهد ليس جديدا على الأردنيين. ففي مطلع الألفية، شهدت البلاد فضائح البورصات الوهمية، حين رهن بعض المواطنين ذهب نسائهم أو استدانوا، ليكتشفوا لاحقًا أنهم وقعوا في فخ شركات وهمية. اليوم، يتكرر المشهد ذاته، لكن بأدوات أكثر عصرية ومنها:
* إعلانات على "السوشيال ميديا" تَعِد بالثراء السريع.
* "خبراء تداول" يظهرون بملابس أنيقة ولغة مبهرة، بينما يفتقرون إلى أي مؤهل مالي حقيقي.
* مقاطع فيديو قصيرة تسحر المتابعين بصور القصور واليخوت والسيارات الفارهة، بينما في الواقع، هؤلاء المروّجون يبحثون عن سيارة أجرة أو إنترنت مجاني.
الأبعاد الاجتماعية
اجتماعيًا، تُعد هذه الشركات مصانع للوهم، تبيع الأمل للناس ثم تتركهم غارقين في الخسائر والديون، وكثير من الضحايا فقدوا مدخراتهم، وبعضهم اضطر للاقتراض أو بيع ممتلكاته، ما يهدد الاستقرار الأسري والاجتماعي.
دينيًا، أفتى العديد من العلماء بحرمة هذه المعاملات، باعتبارها أقرب إلى المقامرة، وتنطوي على ظلم واضح للناس، فضلًا عن آثارها الاقتصادية السلبية.
تهديد مباشر للاقتصاد الوطني
من الناحية الاقتصادية، تشكل هذه الشركات استنزافًا صريحًا للسيولة الوطنية. فهي لا تضيف قيمة حقيقية، ولا تساهم في التنمية أو الإنتاج، بل تعمل على تحويل أموال ضخمة إلى الخارج، ما يضعف الاقتصاد الوطني.
الأخطر أن تقديرات غير رسمية تشير إلى أن حجم الأموال المحولة عبر هذه الشركات قد يصل إلى مليارات الدولارات سنويًا، وهو رقم يفوق قدرة الاقتصاد الأردني على تحمله.
الكارثة تحتاج لمواجهة شاملة
خبراء يجمعون على أن مواجهة الظاهرة تحتاج إلى خطة متكاملة، تشمل تشديد الرقابة والتشريعات لمنع عمل الشركات غير المرخصة، وإلزام الشركات بمتطلبات مالية صارمة تضمن حقوق العملاء، وتنطيم حملات توعية وطنية تحذر من مخاطر التداول غير المنظم، ووقف الإعلانات المضللة التي تبيع الوهم باسم الاستثمار، وتوضيح شرعي واضح لحسم الجدل الديني حول شرعية هذه المعاملات.
مسؤولية الدولة والمجتمع
القضية لم تعد مجرد "أحلام ضحايا"، بل تحولت إلى ملف وطني يمس الاقتصاد والأمن الاجتماعي. تصريحات النائب الظهراوي وتحركات الأجهزة الأمنية، إلى جانب أسئلة العرموطي، كلها مؤشرات على أن الملف بات تحت مجهر الدولة.
لكن السؤال الكبير يبقى: هل تتحرك الحكومة بخطوات سريعة وحاسمة قبل أن تتحول هذه الظاهرة إلى أزمة مالية كبرى تبتلع مليارات أخرى من أموال الأردنيين؟