في جنوب الأردن، حيث تنبت الرجولة من صخور الكرك وتُروى المروءة بماء الفطرة، وُلد محمد الرواشدة ، رجلٌ لم يكن عابرًا في الزمن، بل علامةً على زمنٍ مُضيء بالخلق والمعرفة والأخلاق والشهامة والمرؤة.
كان أبو باعث تربويًّا لا كغيره من المعلمين، بل مربّيًا للأرواح قبل العقول لم يدخل فصلًا دراسيًّا إلا وجعل من السبورة مرآة للصدق، ومن الطباشير ضوءًا لطريقٍ طويلٍ من الحلم والنُبل، أخلص لوطنه، لعشيرته، لطلابه، ولرسالته التي حملها في صدره كما يحمل الواعون رسالة الأنبياء حيث تربية النفوس قبل تلقين الدروس.
وقيل فيه "كنت مشكاةً للعلم، ومنارةً للأدب... كنت نعم المربي، والأخ، والصديق" قالها من عرفه، لا مدحًا، بل اعترافًا بفضلٍ لا يُنسى.
لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، لكن خُطاه كانت أقوى من العثرات، يمشي بثبات الذي يعرف أن أثره سيظل بعد غيابه وحين ارتقى إلى مسؤولية أكبر، وأصبح محافظًا لمعان، لم يتغير، ظل هو الرجل ذاته الذي يفتح بابه قبل أن تُفتح الأوامر، وينصت لهموم الناس كما ينصت الأب لأبنائه، بوجعٍ صادق واهتمامٍ خالص وحين ترجل عن المنصب، لم يتراجع عن دوره، فقد بقي كما هو وجه الخير، وصوت الحكمة، وسند الضعيف.
وفي لحظة صمت حزينة من صيف عام 2016، توقف قلب الرجل، لكن سيرته لم تتوقف. نعاه الأصدقاء، وبكاه طلابه، وحزن لأجله من عملوا معه وعلّمهم، فالرجال العظام لا يغادرون حقًا، بل يتحولون إلى ذاكرةٍ نابضة تسكن القلوب والوجدان في عي، وفي الكرك، وفي عمّان وفي كل المحافظات... أينما ذُكر اسمه، ساد صمتٌ من الإجلال، وكلماتٌ من الوفاء.
يا أبا باعث، اليوم الدنيا تُكرمك كما تستحق، وذكراك التي لا تموت، هي وسامك الأبقى نم قرير العين، فقد تركت من خلفك إرثًا لا يُشترى، وذكرًا لا يُنسى، وقامةً تعجز الأيام عن أن تُنزلها من مقامها.
وحين ترحم عليه إبنه ناظم الرواشدة عبر صفحته انهالت الكلمات كالمطر لتذكر مناقب الفقيد أبا باعث ومما جاء فيها وهي غيض من فيض :
أبو باعث… سكن القلوب بحكمته وحنكته وبصيرته النافذة. سكن القلوب بملامحه المشرقة، وأناقته التي تليق بمقامه، وأثره الذي لا يُمحى، وتأثيره الذي يسبق حضوره. كان نموذجاً فريداً قلَّ أن يجود الزمان بمثله، وسيبقى حاضراً في وجداننا كلما ذُكر الرجال الرجال.
أبو باعث… المربي الفاضل، صاحب النخوة والحمية والمروءة، والرجل الذي حمل على عاتقه فضل النهوض بلواء عي، حتى غدا يُعرف بـ"لواء العلم والمعرفة"، بفضل جهوده الكبيرة في توفير البعثات التعليمية لأبناء اللواء في شتى التخصصات سيظل أبو باعث رمزاً للفخر والاعتزاز ، وإلى جنات الخلد يا من رفعت راية العلم والكرامة.
رحم الله أبا باعث، الرجل الذي جمع بين رقيّ الخُلق وكرم اليد، وتميّز بفكر ثاقب وعقل راجح كان قائداً في الميدان التربوي، وملهماً في حياتنا، ترك في القلوب بصمة لا تُمحى، وفي العقول نوراً يهدي الدروب.
رحم الله روحاً لا يغيب ذكرها الطيب عن ألسنة القريب والبعيد، والقاصي والداني. رحم الله الكريم صاحب الأيادي البيضاء الممدودة بالخير والحب والعطاء، وصاحب المبادئ والقيم التي تُدرَّس وتُروى للأجيال رحم الله من حملنا اسمه بفخر وعز وشموخ.
رحم الله أبا باعث وأسكنه فسيح جناته ما من لقاء مع أبناء الكرك، أو جلسة مع الأصدقاء والمعارف، إلا ويُذكر فيها اسمه، وتحضر سيرته وهيبته وأناقته فقد كان موئل الحكمة وشيخ زمانه، يمتلك بصيرة وكرزما وسعة أفق نادرة، حكيمٌ حين تكون الحكمة مطلباً، وحليمٌ حين يكون الصبر مفتاحاً للفرج، ثاقب البصر والبصيرة على الدوام.
يا أبا باعث… رحلتَ عن الدنيا، لكنك تركت في القلوب حياة، وفي الذاكرة حكاية لن تنطفئ. ستظل سيرتك منارةً للأجيال، وصوتك الحكيم يتردد في المجالس، وابتسامتك الهادئة تسكن العيون كن قرير العين، فقد غرست في الأرض بذور الخير، ورفعت للسماء دعاء المحبة، وسيبقى ذكرك عابقاً ما بقي الوفاء في القلوب.